تحرير فكرة الحرية من المعارضة السورية
د. مضر الدبس
حُرِّرت نصوصٌ كثيرة في السنوات الأخيرة تحت عنوانٍ عريض هو “نقد المعارضة”، أو ما يُفضل بعض السياسيين تسميته “المراجعة”؛ فصار ممكنًا القول إن لدينا الآن ورشة سورية ضخمة تعمل في النقد والمراجعة، وأغلبية العاملين في هذه الورشة هم من الذين عملوا في المعارضة وأصبحوا يجدون ضرورةً لنقد ذواتهم الجمعية. وهذا أمرٌ رائع وإيجابي إن تغيرت المنهجية والطرائق التي ينظر هؤلاء بوساطتها إلى أنفسهم وإلى العالم من حولهم، ولكن إن لم تتغير هذه المنهجية تكون هذه الورشة إشاعة، ويكون كل هذا النقد والمراجعة وهمًا جديدًا لا أكثر؛ فمنهجية بناء الخطاب والأداء التي أدت إلى الخطأ، لا يمكن أن تكون هي ذاتها منهجية نقد هذا الخطأ إلا إذا كانت كل هذه الورشة إشاعة، أو وهم، أو إذا كانت المعارضة نفسها إشاعةً أو وهماً. وبعد هذا الألم كله، صار مبررًا فتح نقاشٍ عمومي – أو ثوري – في فكرةٍ مفادها أن المعارضة صارت إشاعةً تسبب إرباكًا، وفي أحسن الحالات نقول إنها لا تنفع.
في الأحول كلها، ما نريد تثبيته بدايةً أن هذا النص لا ينتمي إلى ورشة نقد المعارضة – أو لا يرغب كاتبه بذلك في أقل التقديرات – بل كُتِب ليحرض على تحرير فكرة الحرية، ومن ثم فكرة الثورة بطبيعة الحال، من فكرة المعارضة. وليس في هذا التحريض تقليلٌ من قيمة المعارضة، أو من إنجازاتها قبل الثورة وبعدها، بل هو تكريمٌ لائقٌ لها، وتحقيرٌ لازمٌ للطغمة الحاكمة. نريد أن نقول إن المعارضة السورية لم تعد طريقًا إلى الحرية، ومن ثم لم يعد نقدها بوصفها كذلك أمرًا مفيدًا، ولكن هذا الحكم لا ينبغي أن ينفي أهمية هذا النقد؛ فهو لا يزال تمرينًا مهمًا وضروريًا في مستوى البناء الديمقراطي والحفاظ على الحرية بعد انتزاعها من الطغمة.
صار إعفاء مفهوم “المعارضة السورية” من مهامه المرحلية ضروريًا، حتى لا تموت فكرة الحرية تحت وقع المحاصصة. ولسببٍ آخر أيضًا: أن هذا المفهوم قد خرج، بعد الذي حدث كلَّه، مفهومًا مُنهكًا ومتشنجًا في المستويات كلها، وأصبح يحتاج إلى الحد الأدنى من الاسترخاء الدلالي ليحتفظ بأهميةٍ اصطلاحيةٍ ما؛ فالمعارضة في السياسة تكون لنظامٍ سياسي، وأما الطغمة التافهة في دمشق، والوطن المُحتل من عديد الدول، لا تناسبه معارضة حتى ولو كانت تتبنى مشروعًا وطنيًا، بل يحتاج إلى جماعةِ تحريرٍ وطني جامعة قادرة على تبني إعلان استقلال ثالث. يعني ذلك أن تحرير فكرة الحرية من المعارضة السورية، وطرحها في إطار الوطنية الجامعة صار شرطًا من شروط تعيين الحرية وانتصار الثورة. وللمرء أن يعترض على هذا الطرح انطلاقًا من القول إن هذا طريقٌ طويلٌ ووعرٌ وقاسٍ، وإن الذهاب فيه مغامرة. وفي الحقيقة كنا سنرى أن هذا الاعتراض منطقي ومقبول لو أننا لم نرَ أن الطريق الآخر أكثر مخاطرةً ووعورةً: إنه خطِرٌ وصولًا إلى إمكانية إيجاد عبارات مثل “المعارضة تشبه النظام في كل شيء”، أو “المعارضة والنظام بعضهما أسوأ من بعض”، في كتابات وأحاديث ثوارٍ مخلصين لقضية الثورة، ومنهم من دفع أثمانًا باهظة. ربما تدل هذه العبارات التي صارت تحجز لنفسها مساحةً أوسع في أدبيات الثورة على المخاطر الكبيرة إن لم تتحرر فكرة الحرية من المعارضة السورية، بل تدل على أكثر من ذلك: على موت المعارضة السورية الحالية سياسيًا.
ولكن السؤال عن كيفية تكوين جماعة التحرير السورية الوطنية ليس سؤالًا سهلًا، ولا تحيل الإجابة عنه على فكرة مجردة عن الحركات التحررية فحسب، ولكنها أيضًا إجابةٌ مُحددة بوصفها إجابةً سوريةً مرتبطةً بتاريخ سوريا وبحاضرها. وهي بتصورنا إجابةٌ تنتج من جهدٍ جماعي، فهذا النوع من التكوين إبداعٌ تواصلي بالدرجة الأولى، ونتيجة حوارٍ عمومي واسع، وليس لأحدٍ حق الادعاء بامتلاك وصفة جاهزة له. ولكن، إمعانًا في التحريض على ابتكار جماعة تحريرٍ وطنية، نطرح إلى ساحة النقاش السوري العمومي تصورًا مبدئيًا يستند إلى ثلاثة مفهوماتٍ مستوحاة من “إعلان استقلال سوريا”، الصادر عن “المؤتمر السوري العام” بوصفه واحدًا من أوائل التعيينات السياسية لتعبير “الوطنية السورية”، وكان إعلانه في “ساحة المرجة” في دمشق في الثامن من آذار عام 1920 بمنزلة تدشينٍ لعصر السياسة الوطنية الذي تعثر فيما بعد. ولذلك وجدنا من المفيد الانطلاق من هذا الإعلان، وفهمه بلغة اليوم بوصفه لحظة إجماعٍ وطني في سوريا الكبرى، تتطابق مساعيه مع مساعي السوريين الحالية: “الاستقلال التام والحياة الحرة” – بتعبيرات الإعلان – ولذلك نبشنا منه المفهومات الثلاث الآتية.
المفهوم الأول: الجهاد السياسي
نقرأ في بدايات إعلان الاستقلال: “إن الأمة العربية ذات المجد القديم والمدنية الزاهرة، لم تقم جمعياتها وأحزابها السياسية في زمن الترك بمواصلة الجهاد السياسي، ولم تُرق دم شهدائها الأحرار وتثر على حكومة الأتراك إلا طلبًا للاستقلال التام والحياة الحرة”. واللافت في هذه الجملة هو الربط الجميل والذكي بين الجهاد السياسي والجمعيات والأحزاب السياسية، يعني ذلك بلغةٍ أكثر مُعاصرة: الربط بين الجهاد السياسي والمجتمع المدني، أو يصير الجهادُ أيديولوجيًا لا يصلح للوطنية ولا لأي فكرةٍ جامعة؛ فالجهاد الأيديولوجي يحيل على جماعات متكورة على ذاتها لا تلائم فكرة الوطنية، ومن ثم لا تلائم فكرة الاستقلال والتحرر، بينما يحيل الجهاد السياسي على قدرة الجماعات على مغايرة ذاتها، أي على قابليتها للوطنية بما فيها من كونية. يعني ذلك تحولًا من الجهاد العقائدي الأيديولوجي المتعالي على مفهوم الفرد وخياره الحر بصورة عامة (مثل الجهاد الديني، والإثني، والطائفي، والمذهبي) إلى الجهاد المديني السياسي. يقوم الأول على تمرين الرعوية والعصبوية، ويقوم الثاني على تمرين المواطنة والوطنية. وتجدر الملاحظة بالضرورة أن الجهاد السياسي لا يتلاءم مع استخدام صفة “العربية” لتحديد الأمة، لأنها تصير أيديولوجيا غير مقبولة في هذا الموضع أيضًا؛ فالأمة سورية فحسب.
المفهوم الثاني: الإرادة العامة والتمثيل
نقرأ في إعلان الاستقلال جملةً معترضة ولكن مهمة، وصف بها أعضاء المؤتمر السوري العام أنفسهم كالآتي: “نحن بصفتنا ممثلين للأمة السورية تمثيلًا صحيحًا نتكلم بلسانها ونجهر بإرادتها”. وفي هذا التوصيف ربطٌ مهمٌ آخر، هذه المرة بين التمثيل والإرادة، بين طريقة تمثيل السوريين الصحيحة ووجود إرادة سورية عامة ناجزة وواضحة ومُتفق عليها ليجهر بها الممثلون. يحيلنا هذا على ما نسميه “السلطة التواصلية السورية” التي تتكوَّن الإرادة العامة بوساطتها وبحمايتها في فضاء سوري عمومي، يحتضن النقاشات ويبلورها ويطورها، ويستند إلى العقلانية التواصلية. الأمر الذي يعني إمكانية تفويض مديني للممثلين. وحتى لو كان هذا التفويض تعيينًا وليس انتخابًا، فإنه يقضي على المُحاصصة خانقة الحرية، ويستند إلى أسس العقلانية التواصلية التي تحدد المصلحة في الفضاء العمومي السوري.
المفهوم الثالث: الوطنية معرفةً بدلالة كونية أو الأمة بوصفها “عضوًا عاملًا في العالم المدني”
دعا إعلان الاستقلال “الدول المدنية” إلى الاعتراف باستقلال سوريا وجلي جنودهم عنها، مع الحفاظ على الصداقة المتبادلة، حتى تتمكن الأمة السورية من “الوصول إلى الرقي” – بتعبيرات الإعلان – وأضاف تطلعًا إلى أن تكون الأمة “عضوًا عاملًا في العالم المدني”. وتبدو ملاحظة فكرة المدينية في أكثر من مكانٍ في الإعلان كأنها تعكس إدراكًا لقيمة الوعي الكوني في التفكير، ورغبةً في تعريف الذات الوطنية بدلالة الانتماء الإنساني، والانفتاح على عضوية العالم بفاعلية. وهذا نمطُ تفكيرٍ ينتج من ذهنية لا تتوافر في المعارضة، ولن تتوافر لأن وعي المعارضة السوري محلي. بينما تتوافر في جماعة التحرير الوطنية القدرة على إنتاج المعاني الكونية بثقافة سورية وعقلٍ سوري، وذلك نتيجة قدرتها على مغايرة نفسها بموجب طبيعة تكوينها، وهذا أمرٌ كبير الأهمية في حقل السياسة السورية المرحلي والاستراتيجي.
باختصارٍ شديد، نَبشَ هذا النص في أدبيات الوطنية السورية ليطرح منهجيةً من جنسها تؤدي إليها من طريق تكوين جماعة تحريرٍ سوريا قادرة على إعلان الاستقلال الثالث وتحرير فكرتي الحرية والثورة من المعارضة السورية. وتصير أهمية الانطلاق من هذا النبش مضاعفةً، إذا أقمنا وزنًا لآراء لافتة من نوعية ما طرحه المؤرخ البريطاني جون كرينجر عندما نظر إلى النظام الطغموي الحالي، وإلى مجمل الإرث الديكتاتوري السوري، بوصفه “إرثًا ينتمي إلى الماضي الكولونيالي”.
تلفزيون سوريا- ٣١-٥-٢٠٢١
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع