التجديد الديني في السعودية
أثار تصريح ولي العهد السعودي في نهاية الشهر الرابع هذا العام المتعلق بالتزام الحكومة ” بالحديث المتواتر في الأمور الشرعية وتنظر في حديث الآحاد ولا تنظر للخبر إلا في حالات خاصة” نقاشاً هاماً سياسياً وفكرياً، فقضية التجديد الديني عادت للبروز بعد خمود موجتها الأولى قبل أكثر من قرن من الزمان، وهذه المرة أيضاً عادت بتأثير التواصل مع المجتمعات الغربية، ولتواكب عودة الإسلام، على الأقل منذ الثورة الإيرانية، ليبرز على سطح السياسة باعتباره بديلا لفشل المشاريع القومية والاشتراكية المتحولة إلى أنظمة مستبدة فاسدة.
وقد لا تكون الأفكار التجديدية التي طرحها الأمير جديدة، لكنها تأخذ قيمتها من كونها صدرت عن شخص هو الحاكم الفعلي للسعودية منذ عدة سنوات، والسعودية بقيت دائماً قطباً عربياً ودولياً هاماً، تحاول الأنظمة العربية مصادقته وتراعي مكانته في حالة العداء. على الصعيد الداخلي لابد من التذكير أن السعودية، وتوسعاً الخليج، لم تعد مجرد ملكيات غنية متخلفة كما كانت عليه في خمسينات القرن الماضي، وفي حين فقدت الأنظمة “التقدمية” في مصر والعراق وسوريا والليبرالية في لبنان معظم ريادتها الحضارية في الصناعة والتعليم والثقافة والبنية التحتية، الضرورية لأي تطور عصري، بسبب عهود طويلة من الاستبداد والفساد، فإن الجامعات السعودية سبقت الجامعات المصرية كماً ونوعاً، بالطبع إن توفر الإمكانات النفطية يقدم تسهيلاً مهماً في أي عملية تطوير أو تحديث، وفي الحقيقة هذا هو مطلب المعارضة، أي استخدام الإمكانات المالية في التطوير وليس في الاستهلاك وإثراء بطانة فاسدة.
يمكن القول أن الدولة العميقة في السعودية لا تزال دينية- ملكية استبدادية، ولا تزال الحاجة إلى التغيير ملحة، وإجراءات ولي العهد، التي يمكن اعتبارها إجراءات فوقية قد تناسب التطور التعليمي والثقافي والاحتكاك مع الغرب.. الخ. لكنها لا تناسب طبيعة الدولة الدينية، لكن يمكن القول إنها إجراءات جريئة بالمعنى الفقهي، وقد يكون فرضها من قبل دولة قوية أسهل بكثير من فرضها تحت ضغط حركة شعبية أو سياسية، هذا على الأقل ما أثبتته تجارب تاريخية تم فيها التغيير من فوق، رغم عدم وجود تطور مناسب في البنية الاجتماعية كما حدث في تركيا أتاتورك وتونس بورقيبة مثلاً. وهنا يطرح السؤال المتعلق بديمومة إجراءات تفرض فوقياً خاصة عندما تخص الدين وأمور تتعلق بالثقافة المجتمعية مثل دور المرأة وقانون الأحوال الشخصية. إن ديناميات التغيير المجتمعي ليست بسيطة ولا يمكن التعامل معها كتخطيط تاريخي، وقد تكون قابلة للتراجع الجزئي أو الكلي وفقاً للأوضاع الملموسة لكل حالة، لكن مراجعة التجارب التاريخية تثبت نجاح الكثير من التغييرات القسرية التي جرت بالقوة ومن الأعلى أو من الخارج، في إحداث تغييرات دائمة في مسائل تتعلق بالدين والطائفة مثلما تم تحويل مصر السنية إلى شيعية ثم إلى سنية مرة أخرى وتحويل إيران ذات الغالبية السنية إلى شيعية من قبل الصفويين.
غالباً ما تتوفر في المجتمعات مرونة كافية تسمح بقبول التغييرات القسرية، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن فئات رجال الدين عموماً الذين يجدون طريقة للتكيف مع نزوعات وربما مع نزوات الحكام الأقوياء. وبالطبع مع وجود عوامل مشجعة في البنية الاجتماعية والثقافية تكون فرص الديمومة والثبات أكبر، ولا بد أيضاَ من إضافة عامل الزمن بما يعنيه من تكريس الأمر الواقع بغض النظر عن وجود معارضة له. حتى الآن سمعنا عن مواقف اجتماعية ودينية رافضة محدودة في السعودية لا تتوافق مع الانطباع القديم عن السعودية كبلد خاصة وأن التغييرات التي بدأت منذ عدة سنوات شملت الحد من صلاحيات جماعة “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، والسماح للمرأة بقيادة السيارة، بعدما كان ذلك ممنوعًا عنها بل وتُعاقب عليه، وأعلنت هيئة الترفيه السعودية عن بناء دار للأوبرا ، كما أزالت السلطات الحظر عن دور السينما والقيود المفروضة على الحفلات الغنائية المختلطة، وسمح للنساء بحضور المباريات في المدرجات لأول مرة كما سمحت لهم بالمشاركة في ماراثون سباق للسيدات…. الخ.
من الواضح أن حساسية موضوع المرأة لا تقل أهمية عن التجديدات الفقهية، وذلك نظرا لقيمة الموضوع منظوراً إليه، ليس من الزاوية الدينية فقط، لكن أيضا من الزاوية الاجتماعية حيث تسود ثقافة ذكورية متخلفة، وفي بعض الأحيان تتعارض مع الدين، في أمور هامة مثل إقامة حد الزنا الذي لا يوجد له سند في النص القرآني ولا في الحديث المتوتر. لذلك كانت بعض ردود الافعال مثلاً هي حرق سيارات النساء اللواتي بدأن القيادة.
كانت بداية الربيع العربي فرصة لبث الحياة في الحراك السياسي في المنطقة كلها لو قيض لها الاستمرار، وهو أمر لم يحدث لأسباب ليست موضع نقاش هنا، وقد تلمس الحكام في كل مكان في مواقع سيطرتهم للتأكد أنهم لن يكونوا موضع تهديد. ولم تكن السعودية بمنأى عن التأثر فقد شهدت حراكاً لم يقتصر على المنطقة الشرقية ذات الخصوصية الطائفية حيث كان الحراك فعالاً وذي مضامين سياسية واضحة، بل امتد ليشمل مناطق سعودية أخرى وليأخذ غالباً شكل النشاط الحقوقي والنسوي، خاصة فيما يتعلق بالمشاركة في الانتخابات البلدية وبقيادة السيارات، وبشكل محدود سياسياً يطالب بإنهاء الملكية المطلقة وبإصلاح سياسي.
وقد عالج الملك عبد الله الوضع حينها بمزيج من ثلاثة عناصر، الأول مزايا مالية وتعويضات للعاطلين عن العمل والدارسين في الخارج وزيادة رواتب الموظفين وإعانات لقروض الإسكان، والثاني اعتقالات وإعدامات وملاحقات للمعارضين والنشطاء مع التحضير لانتخابات بلدية للرجال فقط، والإجراء الأخير هو الترويج لِـ والعمل بفتوى المفتي عبد العزيز آل الشيخ برفض التظاهر والعرائض واعتبارها تحريضاً على الفتنة.
انطوت تلك الفترة في السعودية بسهولة نسبية، وفي دول عربية أخرى بخسائر بشرية فادحة وخسائر سياسية واجتماعية مريعة، ولكن ضرورة التغيير لا تزال ماثلة سواء في الملكيات أو في الجمهوريات والوراثية منها مثل سورية، وقد أضعفت حادثة اغتيال الخاشقجي في تركيا مصداقية ولي العهد السعودي، خاصة على الصعيد الدولي، دون ان يترتب عليها موقف ضاغطة كبيرة وستحظى السياسات الإصلاحية السعودية بكل الدعم الممكن خاصة كونها تعارض التطرف الديني والإرهاب وتسعى لحل المشاكل الإقليمية بشكل سلمي، مع إيران خاصة، وتحاول الوصول لتسوية في الموضوع اليمني، لكن الأمر الذي يبقى ملحاً هو اعتماد المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان مرجعا والبدء بفتح هوامش ديموقراطية فيما يخص الحريات الأساسية.
تيار مواطنة
مكتب الإعلام 12حزيران/ يونيو 2021