المشهد السوري إلى السخونة من جديد
عادت السخونة إلى خطوط التماس بين قوات وميليشيات السلطة من جهة وقوات المعارضة ومناطق التسوية في درعا من جهة أخرى؛ فمن أرياف إدلب واللاذقية وحلب إلى درعا والحصار المفروض على بعض مدنها وبلداتها، يبدو أن النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيين يسابقون للحصول على مكاسب جديدة على الأرض. فهل نحن أمام سباق يتحدد بنتيجته أو نتائجه سياق الحل المقبل، أم نحن أمام محاولة مكرورة من قبل النظام وحلفائه لتعزيز مواقعهم على الأرض، بدون النظر إلى الدخول في مسار الحل السياسي؟
بنظرة عاجلة، يمكن اعتبار هذا التسخين كمحاولة من النظام وحلفائه لتعزيز أوراقهم، لكن هذه المرة من أجل الكسب في الحالتين؛ أي أن يعيد النظام سيطرته على المزيد من المناطق التي فقدها سابقاً، خاصة على الطرق الدولية مثل M4 بين اللاذقية وحلب، وإنهاء حالة العصيان التي تعيشها حوران سهل وجبل، وبنفس الوقف، يمكن اعتباره تقوية مباشرة لأوراق النظام التفاوضية، في حال بدأت مسيرة الحل السياسي، ولو ببطء شديد جداً كما يطمح النظام، خاصة أنه قدم للمبعوث الأممي وعداً مكتوباً بتيسير عمل اللجنة الدستورية الغراء.
لم يرشح شيء ذو قيمة ملموسة خلال قمة بايدن – بوتين في16 حزيران/ يونيو الفائت، وفيها ظهرت تباينات وجهات النظر بحدة تجاه مواضيع حقوق الإنسان والتدخل الروسي في شؤون الدول الأخرى والقرصنة والحرب الإلكترونية.. الخ. أما المواضيع التي تخص الموقف من سوريا وإيران فلم تكن نقاط بحث في القمة، بل ظهرت لاحقاً في تصريحات سكرتير الدولة الأمريكي والسفيرة غرينفيلد في مجلس الأمن، وقد شددا على ضرورة فتح المعابر الإنسانية التي من المفترض التجديد لها في مجلس الأمن في 8 تموز/ يوليو الجاري، والإصرار على المسار السياسي وفق 2254/2015، وفتح المعابر، والتساهل في إدخال المساعدات الإسعافية لكل المناطق لمواجهة جائحة كورونا ومنع انهيار الوضع الصحي والمعاشي للسوريين، وتخصيص منحة كبيرة للمساعدات الإنسانية، والإصرار على الحلفاء بعدم التطبيع مع السلطة الطغمة بدون مقابل مجزٍ.
تلى ذلك تصريح الاتحاد الأوربي وتبيان موقفه بوضوح من النظام السوري ومطالبته بإبقاء العقوبات الأوربية طالما لم يقدم النظام كل متطلبات الحل السياسي وفق القرار 2254، وأكد إصرار الاتحاد على الانتقال السياسي والاستقرار في المنطقة ومكافحة الإرهاب.
من خلال المتابعة الجيدة للملف الإنساني، يتضح أن الإدارة الامريكية تحاول أن تقدم بعض الحلوى لروسيا كي لا تستخدم الفيتو ضد التمديد لفتح المعابر والتي ستكون المرة 17 في مجلس الأمن لحماية النظام السوري ، وبالتالي، إجبار المساعدات الإنسانية، التي يأتي أكثر من 90% منها من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان، على العبور عبر بوابة السلطة إلى إدلب وريف حلب وشرق الفرات، وبذلك يكسب النظام، ليس فقط من هذه المساعدات الضخمة، بل من التضييق على أعدائه في الشمال الشرقي والغربي والتحكم بالوضع الإنساني، لأكثر من 13 مليون سوري- حسب الأمم المتحدة- في كامل المناطق السورية.
المهمة معقدة أمام الأمريكان، خصوصاً، بعدم وجود حلفاء موثوقين في المنطقة، باستثناء التوافق الأمريكي- التركي على ضرورة فتح المعابر، لكن المشكلة أن الأتراك لا يصرون على فتح معابر المنطقة الشرقية- اليعربية- ويكتفون بمعابر إدلب- باب الهوى وغيره- وهذا غير كاف من وجهة النظر الأوروبية- الأمريكية. في هذا الصدد، يرى البعض بأن روسيا لن تغضب الأمريكيين، لكنها ستكتفي بتمديد مؤقت قد يصل إلى ستة أشهر، يسمح لها هذا التمديد بالتفاوض على تنازلات أكبر بخصوص رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية، وملف التطبيع مع النظام لمن يرغب من العرب والأوربيين، وبالمحصلة تعويم أكثر للنظام وتقوية ملفاته في وجه عاصفة التسوية المقبلة.
ومما ظهر لاحقاً فإن ملف النووي الإيراني هو الأبرز في هذه المرحلة في مفاوضات جنيف، بالرغم من أن قمة بوتين- بايدن لم تبحثه، لكن هذا الملف يبقى الأهم للإدارة الأمريكية، خاصة وأن حلفاءها في المنطقة- دول الخليج وإسرائيل- يرون أن هذا الملف هو الأخطر في ترسانة إيران العسكرية وقدرتها التوسعية في دول المنطقة، وعلى هذه المفاوضات يترتب نوع الردّ الذي ستقوم به هذه الدول وخاصة إسرائيل. من جهة أخرى، يبدو أن التضييق على إيران عبر الحصار والعقوبات لن يؤتي أكله قريباً، خاصة أن وجودها في العراق واليمن ولبنان قد أصبح مستوطِناً بوجود الحشد الشعبي والحوثيين وحزب الله، لكن هذا الوجود أقل استقراراً في سوريا، حتى الآن، وقد تكون المعركة المقبلة حاسمة في اقتلاعه أو تقويته نسبياً. فالنزعة الإمبراطورية لدى إيران الملالي تجد تشجيعاً من النظام، لكنها تلقى مقاومة أكبر من قبل الشعب السوري عموماً، بحيث يمكن القول أن الوجود الإيراني “الاستيطاني” في سوريا لم يبلغ مرحلة اللا عودة، ويمكن ببساطة اقتلاعه من أطراف دمشق وريف حمص وريف دير الزور- البوكمال والميادين- بمجرد وجود قرار أممي مدعوم بقوة عسكرية ملائمة في سياق الحل السياسي الشامل.
قد يكون الحدث الأبرز ضمن التحركات الدولية هو اجتماع روما في 28 حزيران/ يونيو والذي دعا له الوزير بلينكن، وتأتي أهميته من الحشد الكبير نسبياً- 87 دولة- الذي حشدته الإدارة الأمريكية بحيث يمكن اعتباره “رد اعتبار” للملف السوري. وقد ركزت مخرجاته على التعهد باستمرار الدعم والتواجد الغربي لمكافحة الإرهاب والتمسك بالقرار 2254 واعتبار أي محاولة للتطبيع مع النظام محاولة مجانية وخاسرة مع نظام معاد لتطلعات شعبه.
أما الاجتماع المهم الأخير والذي عالج الملف السوري فقد عقد في انطاليا 30 حزيران/ يونيو بحضور جاويش أوغلو ولافروف. وفي هذا الاجتماع يبدو أن الجانب الروسي حاول جاهداً التمسك بالتفاهمات مع الجانب التركي وبتقديم الكثير من الوعود في ملف التعاون الاقتصادي والعلمي بين البلدين، لكنه أصر على حصته- وحصة النظام- من التفاهمات بعدم تقديم وعد بتنفيذ 2254 وفق التفسير التركي- الغربي، بل وفق التفسير الروسي للقرار. هذا يعني من وجهة نظر روسيا عدم التفريط بتركيا وتجنب إعادتها إلى حضن الناتو- أمريكا بالمحصلة- وإبقاء التوتر بين تركيا والغرب قائماً لأنه أفضل وسيلة لتعطيل المسار الأممي وفق التفسير الغربي. في مخرجات اللقاء أكد لافروف على استمرار مسار استانا وتطبيق 2254، بالإضافة إلى تشكيل لجان مشتركة لبلورة نتائج التفاهمات حول سوريا، وأخيراً أكد على تنفيذ البروتوكول المقر في تلك التفاهمات وإنشاء منطقة خالية من المسلحين- هنا تعني فصائل المعارضة- وأعاد التأكيد على ضرورة أن تشرف الأمم المتحدة وأن تستمر بالعمل على الدستور والحل السياسي.
ما يمكن استخلاصه مما سبق، وكجواب للسؤال لماذا التصعيد في الشمال والجنوب، يمكن اعتبار هذا التصعيد ضربة مزدوجة لأعداء النظام السوري وللمعارضة معاً؛ فـ”المعابر” ضرورية جداً لأعداء النظام وللمعارضة ويستطيع الروس اللعب بها وتمريرها على أقساط لتحصيل أكبر قدر من التنازلات، في الوقت الذي تقضم فيه قوات النظام والميليشيا التابعة أجزاءً من إدلب وتمنع تهديد المعارضة للطرق الهامة، وهذه جميعاً تعتبر أهدافاً تكتيكية- مؤقتة، قد يستطيع النظام وحلفاؤه استثمارها استراتيجياً في حال قدم الأعداء بعض التنازلات الهامة، من مثل: التطبيع ومشاريع إعادة الإعمار ورفع بعض العقوبات. ويبقى من وجهة نظرنا في “تيار مواطنة”، حتى الآن، أن تحويل الانتصار التكتيكي إلى انتصار استراتيجي بحاجة إلى توافق دولي، أكثر من حاجته إلى تنازلات تكتيكية؛ فالدولة السورية على حافة الانهيار، ولا يمكن لزيادة المساعدات أو لقضمها لأجزاء جديدة من إدلب، ولا لسيطرتها على الطريق M4، ولا لسيطرتها الكاملة على حوران أن تجعلها قادرة على تطبيق تسوية سياسية لصالحها 100% على حساب المعارضة.
بالطبع، يدرك الروس هذه المعادلة، لذلك يبقون ضمن الخطوط المرسومة بينهم وبين الأمريكان وبينهم وبين الأتراك، من أجل الحفاظ على التفاهمات وإبقاء الخطوط مفتوحة مع الطرفين، خاصة وأن أي حل سياسي مقبل سيكون برعاية أمريكية- تركية- روسية. ويبقى التخوف- في حال انتصر الروس والنظام في هذه المعارك- وهو المرجح- أن تساعد بعض الدول العربية النظام على التعافي التدريجي، ما سيقود الحالة السورية إلى عنف وتعفن أكثر وليس إلى تعافٍ كما يأمل النظام وحلفاؤه، وقد يكون تكتيك “الانتظار” هو التكتيك المفضل للروس وللنظام ريثما يستسلم الطرف الآخر من السوريين وحلفاؤهم من الغرب وتركيا. وقد يكون هذا صحيحاً نظرياً، لكن لا الروس والنظام يستطيعون الانتظار طويلاً، فهذه الانتصارات ليس لها معنى إن لم تدخل في الاستثمار الاستراتيجي- السياسي، وهذا ما يبدو مستحيلاً بدون التوافق الدولي، فهل سيستمر الروس في المماطلة طويلاً؟ غالب الظن لا.
تيار مواطنة
مكتب الإعلام 7 تموز/ يوليو 2021