أَفي لبنان أيضاً: الجوع أو الركوع؟ موفق نيربية

مقالات 0 admin

 

 موفق نيربية

منذ أكثر من عام أوقف الجيش اللبناني تغذية المنتمين إليه باللحوم، وجعلهم نباتيين بطريقة قسرية، بسبب العوز إلى التمويل الكافي للحصول على الغذاء. ويبلغ عدد عناصر الجيش ثمانين ألفاً، كانت تُقدّم لهم يومياً ثلاث وجبات، يكون اللحم من بين مكوناتها ثلاثة أيام في الأسبوع. وقال أحد ضباط الجيش آنذاك، إنه لا الثياب الممزقة ولا الجوع سيقلّلان من كفاءة واندفاع الجيش في ساحة المعركة عند الحاجة.. ولم يصدقه أحد!
وكان لافتاً أن الولايات المتحدة، اختارت استمرار دعمها للجيش اللبناني بشكل مستقلّ عن البلاد والشعب، مع أن ذلك لا ولن يمنع الخراب الزاحف، فقد انخفض سعر الليرة – وارتفعت الأسعار- بأكثر من 90%، وانخفض الناتج المحلي إلى ثلثه بين عامي 2018 و2020 وعمّ الظلام لبنان أخيراً، بعد إغلاق محطتين كبيرتين لتوليد الكهرباء، بعد الفشل في تأمين الوقود الملائم لهما، وزادت نسبة الفقر سوءاً على سوءٍ من 28% إلى 55% خلال عام واحد 2019 – 2020، وانفجر ميناء بيروت في الرابع من آب/أغسطس في العام الماضي، كما انفجرت مثله كورونا. وأشرفت الدولة على الفشل الذريع إداريّاً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً، مع تمترس النخبة السياسية الرسمية وعجزها، حتى شلل الحكومة.
وكانت الإدارة السورية – الأسدية قد قامت سابقاً بتحطيم الكثير من مرتكزات الازدهار اللبناني، ولكنها حافظت على النظام المصرفي اللبناني، وفخخته في الوقت نفسه، لحاجتها إليه في تبييض عملة فساد النظام السوري، بالتحالف مع الفساد اللبناني الاقتصادي – السياسي. ولم تستطع إدارة حزب الله، المتحالفة مع أمل وميشيل عون، لتبادل المنافع أو السكوت عنها، أن تمنع الاقتصاد المصرفي من الفشل، والشروع بالانهيار؛ حتى اختلفت المعادلات دولياً، ولم يعد ممكناً تمرير حالة متفسخة متعارضة مع تطورات عمل الأقنية المالية العالمية.
من العجيب لوم جمهور اللبنانيين، على انتفاضتهم الثورية في تشرين الأول/أكتوبر 2019، واعتبارها سبباً للفوضى التي عمّت وانتشرت أفقياً وعامودياً من قبل الحلف الحاكم غير المقدس. ويمكن على العكس من ذلك، اعتبار ما جاء بعد الانتفاضة من انهيارات اقتصادية ومعيشية وإدارية نوعاً من العقوبة لأهلها، في جانبٍ من عواملها على الأقل؛ ما لم يكن ذلك أيضاً عقاباً على تضامن كثير من اللبنانيين مع جيرانهم السوريين، في أيام ثورتهم، وأيام لجوئهم إلى لبنان نفسه، ورغم ذلك لا يوفّر الحلف السائد فرصة لإرسال إشارات تؤكد هذه الاستنتاجات.
ليس من مؤشّرات تبعث على التفاؤل بتغيير حقيقي وراء الباب، وإن وُجدت الآن أو في مستقبل قريب، فسوف تكون زائفة ومؤقتة، أو عابرة، لأن الأمر اليومي خارج لبنان في عدة عواصم وبعيد عنه. ولا يقوم الغرب الذي يعي انتماء لبنان إليه، سابقاً على الأقل، بأكثر من حقن الجيش اللبناني ببعض العقاقير التي تمنعه من الانهيار، وإدارة بايدن، على غرار سابقتها، تشترط دعم خطة إنقاذ «صندوق النقد الدولي» في لبنان بتنفيذ إصلاحات مالية. للأسف، من غير المرجح أن تحدث هذه الإصلاحات في أي وقت قريب، وبدونها ستستمر الدولة في الانزلاق نحو الفشل. ولا تستطيع واشنطن منع هذا التدهور – حيث هو من مسؤولية النخب السياسية البائسة في لبنان – ولكن يمكنها اتخاذ خطوات للتخفيف من الأزمة الإنسانية، ومنع الجيش من الانهيار، كما ورد في تقرير من تقارير معهد واشنطن مؤخراً.
هذا يحيل إلى مسؤولية النخب القديمة ونتائجها، التي أشار إليها السفير البريطاني في بيروت مؤخراً قبل رحيله بقوله إن «هنالك تفسخاً قد عمّ في لبنان»؛ اشتقاقاً ربما من كلام هاملت عن الدنمارك؛ التي تتحمّلها الآن خصوصاً تلك الأجزاء المندمجة بشكل أو آخر مع جبهة حزب الله والتيار العوني وامتداداتهما الشوهاء. أمّا النخب المعنية هنا، فهي تلك التي كنا نحسب أن «فيها خيراً»، بعضه أو كلّه، ولا تقوم بواجباتها؛ مع انتظار الأكثر هشاشة أخلاقية من بينها للحصول على حصة في ما يكاد يصبح جثّة لا حياة فيها. كان افتقاد النواة الجديدة لوحدتها ولاستراتيجية متماسكة فاعلة، ولأسس تنظيمها وإبداعها لطرائق تخرجها من شبكات الإثم الطفيلية السائدة، الطائفية والفاسدة أو الضعيفة القلب سبباً لتمادي دوائر الإثم المتحكمة المسلّحة وواجهاتها، مع أن هنالك مثالاً حياًّ منعشاً في تحالف «النقابة تنتفض» و»جبهة المعارضة اللبنانية» والحيوية التي ظهرت في انتخابات نقابة المهندسين.

نحن السوريين، لا يغيب عن بالنا أبداً مثال سمير قصير بين النخبة الموعودة، بربطه مسار الحرية والدولة الحديثة في لبنان وسوريا معاً. وما هو جديد الآن هو أن المهمة زادت صعوبة وتفرعاً، ليغدو- ربّما – مسار الحرية مترابطاً في كلٍّ من لبنان وسوريا والعراق وإيران، وغيرها. هذا الكلام قد يبعث على شيءٍ من اليأس والتشاؤم والإحباط، لكنه «وعي مطابق» على قول الراحل ياسين الحافظ. وهو ضروري، ومن قواعد التأسيس والانطلاق من جديد. يتابع كثيرون في سوريا دروس تجربة الرواد الذين استطاعوا الإقلاع بثورة تشرين 2019، ويتطلّعون إلى الكيفية التي يلتفّ بها اللبنانيون على الفخاخ التي خبروها بأنفسهم سابقاً، في حرب التجويع، مثل فخّ الخشية على «الدولة» من الفشل والانهيار، وفخّ «المقاومة» أو الممانعة، في وسط مستنقع الفساد الذي يبتلع ما حوله، وإرهاب الحرس الثوري وأدواته، ولعلّهم هناك يستفيدون من تجربتنا التي حاولت مقاومة «سياسة» الاستبداد والفساد من دون سياسة منظمة ورؤيا متماسكة واضحة، ومن دون تنظيم صفوف يمنع اختراق الثورة وتشتيت جمعها. في سوريا، كان حصار التجويع أداة ناجحة في بعض مراحل الحسم، بتوليف بين النظام والميليشيات الإيرانية والعسكر الروسي، تحت شعار معلن صارخ يمثّل ذروة وقاحة سياسة الاستبداد «الجوع أو الركوع». ولم يكونوا لينجحوا في ذلك لو بقي الأمر في أيدي الثوار الأوائل، ولم يخرج من بين أيديهم – بعد تحييدهم- إلى ما رأيناه بعد ذلك.
كان صمت حزب الله بليغاً أمام انفجار مرفأ بيروت، يكاد يفصح ويعرب. كان يقول للعالم لن تصلوا إلى شيء ما دامت أجهزة الدولة تحت أنظارنا وأيدينا، وما دام الرئيس والحكومة مرتهنين بإرادتهم أو من دونها. ويقول للناس – الثوار الكامنين – إنكم تحت رحمتنا، ونحن قادرون على سحقكم، أنتم ودولتكم التي قد يكون في انهيارها فرجٌ لراياتنا وفرصة تاريخية. كان صمت حزب الله؛ أو ما يشبه صمته؛ بليغاً أيضاً مع دوران عملية تشكيل حكومة الحريري في مكانها، حتى اعتذر، لأنه – حزب الله- رابح في الحالتين، إن تشكّلت تلك الحكومة على ما يريد، وعاد التفاهم والانضباط على إيقاعات الحزب إلى حالهما؛ أو فشلت الدولة، لتكون «دولته» واحداً من الحلول التي تستمدّ شرعيتها من الخراب. وقد بدأ بالفعل تجاربه هذه، وبدأ هذا الانفجار والانهيار، وأعان الله اللبنانيين على ساستهم.. «كلّن»!
قال سمير قصير أيضاً، وفي فترة مبكرة بعيد عودة ميشيل عون من منفاه الطويل في فرنسا، واصفاً شباب التيار العوني الذين نذكرهم في تحركاتهم وتحالفاتهم – كتحالفات شباب الكتائب الصحيّة هذه الأيام – ومطالباتهم الجميلة في التسعينيات، بأنهم كانوا «من خيرة ما أنتجته هذه البلاد. ضحّوا بالغالي والرخيص إيماناً بفكرة رأوها متجسدة بهذا الرجل»، وكان في قلب تلك الفكرة موضوع تحديث الدولة ودعم قوتها وحياديّتها. أنهى ميشيل عون وصهره تلك الحالة بطموح فاسد غير محدود، وساعدا على صفِّ البلاد وراء حزب الله والاحتمالات مرعبة.. ويُذكِّر حرص الرئيس على لقب «بيّ الكل» كثيراً باللقب الذي أطلقه عليه سمير ربيع 2005 في مقالة له بعنوان «عودة الأب الضال»!

القدس العربي – ٢٠-٧-٢٠٢١

الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع.

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة