قراءة في مسألة ” الإنسحاب ” الأمريكي من” افغانستان”- نزار بعريني

مقالات 0 admin

كتب نزار بعريني


  أعتقد بتجاهل قرّاء مسألة ” الإنسحاب ” الأمريكي الحالي  من” افغانستان”  لنقطتين اساسيتين ؛  تتعلّق الاولى بحصوله في سياق  مفاوضات طويلة  عبر الوسيطين القطري والإيراني ، وبالتالي نتيجة  لإتفاق ، بين “حركة طالبان “والإدارة الإمريكيّة ؛ وترتبط  الثانية بسمات السياق التاريخي ، الذي تعود بداياته إلى حقبة الشراكة الاستراتيجية ، في مواجهة الإحتلال السوفياتي لهذا البلد المنكوب !! .
بكلّ الأحوال، وفي احدى اهمّ  جوانبه ، ما يحدث في افغانستان اليوم لايؤكّد  وجهة نظر النخب السياسيّة السوريّة ؛ المنتشية  بسعادة  التنظير ، والتحليل ، لنظرية “الإنسحاب” الأمريكي من المنطقة عموما ، وسوريا ، بشكل خاص.    (١).
لفهم طبيعة ” الإنسحاب” الحالي من أفغانستان، اعتقد بأهميّة قراءة الحدث  في ضوء  عمليات “التحديث”  المستمرة في سياسات  الولايات المتحدّة الأمريكية الاستراتيجيّة، وآليات عملها؛ وهو ما  يشكّل، بتقديري، نموذجا  لعبقريّة التكيّف السياسي  مع مستجدات الواقع؛ طالما شكّل سمة أساسية لسياسات الولايات المتّحدة الخارجية ؛  بالمقارنة مع فشل معيب  لنظرائها في حكومات  اوروبّا الرأسماليّة ،  وروسيا السوفياتيّة ، وضمن تبوّؤها  موقع الزعامة في النظام الرأسمالي العالمي!!(٢)
اوّلا ،
على صعيد الهدف الإستراتيجي للولايات المتّحدة،  ما يزال هدف تحقيق ، وتأبيد السيطرة  المطلقة على المنطقة ؛  كحجر الاساس في إستراتيجيّة   ضمان هيمنتها العالمية ، وقدرتها على التحكّم بسياسات وافاق تطوّر الأصدقاء ، قبل الخصوم والمنافسين ؛  عصيّا على التغيير، رغم كلّ ما حدث  من  تطورِات في الإقليم ، والعالم، في حقبة ما بعد الحرب الباردة ، وحتى تاريخه   !
ثانيا ،
على صعيد أدوات تحقيق هدفها الإستراتيجي،  التي جسّدتها تاريخيّا  سلطات الانظمة الرأسمالية التابعة، (٣) ، ثمّة تغييرات مهمّة ، بدأت تتبلور ملامحها  في المنطقة  مباشرة في نهاية الحقبة الأخيرة من  مرحلة الحرب الباردة،  خلال ثمانينات القرن الماضي، وسيطرة النظام الرأسمالي العالمي الإمبريالي وحيد القطب، بزعامته الأمريكيّة .

١-بدت ملامح التغيير الجديد مع سقوط نموذج حكم الشاه،  وانتصار “ميليشيات الحرس الثوري الايراني”، وسيطرتها على كامل  ايران، وتحوّلها إلى” نظام سياسي”، شكّل أحد اهمّ شركاء أوروبّا الديمقراطية،  والولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على الإقليم .
٢- وجدت” التجربة الإيرانية”  نجاحا بارزا  في لبنان، مع  نهاية  حروب قوى الثورة المضادة ،
بأدواتها الإقليمية، وأذرعها الميليشاويّة، لاقتسام السيطرة والنفوذ، وعبر ” اتفاق الطائف “، الذي    كرّس سلطة الميليشيات الطائفية في واجهة السلطة السياسية الجديدة، واعطاها شرعية سياسيّة تفتقد اليها، وطنيّا وشعبيّا وديمقراطيّا.
٣-  مع غزو العراق ٢٠٠٣ ، وإسقاط أركان  نموذجه الناصري ، انتقلت الولايات المتحدّة الأمريكية إلى مرحلة جديدة، لاتقلّ خطورة، وأهميّة، عن حدث انتصار ميليشيات الحرس الثوري ١٩٧٩ ،  وشرعنة سلطة الميليشيات في قيادة سلطة النظام اللبناني ١٩٨٩ ، وبالتشارك مع النظام الايراني الميليشياوي ذاته ،  لتأسيس” سلطة الميليشيات الطائفية”، على أنقاض” نظام البعث / الناصري”، لتضعها، لاحقا، في اكثر مراحل الصراع السياسي حساسية  في سوريا،  كاملة، في قبضة” نور المالكي “، بعد الإعلان عن ” انسحاب ” تكتيكي، في نهاية ٢٠١١ .
٤- الحلقة الثالثة ، في مسار التغيير الاستراتيجي في أشكال ادوات السيطرة الاستراتيجية للولايات المتّحدة ، برزت بشكل واضح في مرحلة الثورات المضادّة لحراك الشعوب الديمقراطي ، وفي تبنّي خيار الحل العسكري الميليشياوي، في مواجهة استحقاقات ديمقراطية وطنية شاملة.
في مواجهة حراك الربيع العربي، ومن اجل إلحاق هزيمة تاريخيّة بقواه وأهدافه وجمهوره، وتلقين الشعوب دروسا قاسية في الهزيمة،  دفعت الولايات المتحدّة وشركائها في سلطات الانظمة، بالخيار العسكري الطائفي إلى نهاياته القصوى ، وبما تطلب نجاحه من  تجيير واسع ، غير مسبوق ، للإسلام السياسي، واذرعه الميليشياوية ، في مواجهة قوى التغيير الديمقراطي   ،وما نتج عنه من  تسيّد قيادات  تلك الميليشيات الطائفية،  لساحات الصراع، على انقاض الانظمة وجيوشها؛ ليتعزز نهج  الولايات المتحدّة في  تشاركها مع ” سلطات الميلشيات الطائفيّة “، وبالتالي الاعتراف بشرعية وجودها، في مرحلة الصفقات، والتسويات السياسية اللاحقة  !
التغيير الاستراتيجي في اشكال أدوات السيطرة الإمبريالية للولايات المتّحدة لأمريكية  يمثّله تحويل الميليشيات الطائفية ، ادوات وشركاء هزيمة قوى التغيير الديمقراطي، إلى واجهات سياسيّة، تتشارك معها في إدارة بقايا دول ، وأشلاء انظمة !!(٤).
ما يحدث في افغانستان اليوم إذن  ليس النموذج الوحيد، بل يأتي في سياق نهج عام، تمارسه الولايات المتحدّة في  اعقاب هزيمة أهداف التغيير الديمقراطي في منطقة  ” الربيع العربي “، حيث وصلت حروب قوى الثورة المضادة الى مرحلة التسويات السياسيّة، التي  تحتل فيها  قضيّة شرعنة سيطرة  الميليشيات الطائفية على  واجهات السلطات الجديدة، الأولويّة، وبما يعمم نموذجا جديد من العلاقات التشاركية بين الولايات المتحدّة وسلطات حكم الميليشيات، لا يكاد ينجو منها سوى النظام المصري العتيد  !!

هي اهمّ حقائق الصراع في المنطقة، التي تعمل “النخب السياسيّة والثقافية” السوريّة على إخفائها، تحت يافطة “الإنسحاب الأمريكيّ “؛  رّبما   جهلا بطبيعة الصراع وأهدافه و أدواته، او على الأرجح، جزءا من دور نخبوي  جديد، تمارسه بعض رموز ” المعارضات السابقة ” ، “الديمقراطية”،   في مرحلة الهزيمة  ، وبما يجعل من وعيها السياسي، وما تروّج له،  إحدى أبرز تعبيرات تلك الهزيمة، واخطر وسائل تضليل السوريين!!
▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎
(١)-
هو إصرار ” غير مفهوم ” من زاوية التمثيل الوطني الديمقراطي ،  تظهره  معظم النخب ” المعارضة “، عبر الترويج لنظرية الإنسحاب، وما يقدمه وعيها السياسي من خدمات ” مجّانية ” لشركاء ” الدم السوري ” ، عبر اخفاء طبيعة علاقات التشارك بين قوى الخيار العسكري، العالميّة ،( الولايات المتحدّة الأمريكية) ، والمحليّة ،( سلطات أنظمة الاستبداد)، والتي لا يؤدّي ترويجها سوى إلى تضليل السوريين حول طبيعة العلاقات التشاركيّة ، وبالتالي  اخفاء آليات مشاركة الولايات المتحدّة الاساسية في دفع الخيار العسكري إلى نهاياته الحالية، وإعفاء الإدارة  الأمريكيّة   من مسؤولياتها  المباشرة  عن كلّ أشكال التدمير والتفشيل التي لحقت بالسوريين ،  ودول المنطقة  ، خلال مراحل تقدّم، وانتصار قوى  الثورة المضادة للتغييرالديمقراطي  . يأتي في مقدّمة قائمة المروجين لخديعة الإنسحاب، دكاترة الصفّ الأوّل في ” المعارضة ” السوريّة ، التي توالي  الأمريكان  ؛ كمال اللبواني ، سمير التقي ، رضوان زيادة، برهان غليون ،وغيرهم كثيرون ؛ الذين يصرّون على رؤية حقائق الواقع بعين واحدة ، ترى   في تحميل الروس والإيرانيين ، وشركائهم السوريين ، المسؤولية الحصريّة عن الخيار العسكري الطائفي، وما نتج عنه ، ألف باء المعارضة الوطنية   .!!
(٢)-
لنتذكّر كيف نجحت الولايات المتحدّة في إخراج  ” الجميع ”  من  مواقع  سيطرتها التاريخيّة والاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، واحكمت قبضتها  ، بدون منافس ، خلال سنوت العقد  السادس، بالنسبة للفرنسيين والبريطانيين ، ولاحقا ، بالنسبة للروس ” السوفيات ” الذين صبّت جميع جهودهم ، عن وعي ، او من دونه ، في خدمة سياسات الولايات المتحدّة الأمريكية  !!
(٣)-
تاريخيّا ، طيلة سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال حقبة الحرب الباردة تحديدا  ،  نجحت الولايات المتحدة الأمريكية، في إطار نهج استراتيجي شامل ،  وخلال صيرورة صراع ضدّ منافسين محليين وعالميين ( المشروع القومي العربي، و أهداف المشروع السوفياتي )، في بناء شبكة حماية “مزدوجة” ، في ظل ، وتحت حماية ،الاخطبوط الأمريكي :
▪︎“واجهات ” حكم محليّة ” ، تمثّلها سلطات أنظمة إستبداد مهيمنة،( ديكتاتوريات عسكرية ،وقبليّة ، وديمقراطيات طائفية ) ، تشكّل غطاء ” وطني ” تشاركي ، لتغلغل أدوات، ووسائل النهب الأمريكيّة.
▪︎ ” جندرمة ” إقليميّة ” ، نفّذت ادوارها انظمة ايران وتركيا وإسرائيل ،  لضمان حماية ، واستمرار ،وجود ” الوكلاء ” المحليين، في مواجهة إستحقاقات مطلبيّة، شعبيّة، تئنّ حواضنها من آليات نهب تشاركي ” مثلّث الأضلاع”، محلّي( إستبدادي )، إقليمي ( جندرمة )، إمبريالي ( أمريكي )!!
اعتمدت السياسات الإستراتيجية للولايات المتّحدة الأمريكية، من أجل ضمان سيطرتها على المنطقة، كامل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على شراكات متنوّعة في مستويات قوّتها ، وآليات عملها ، مع واجهات انظمة استبداد اقليمية، تدرّجت في اشكال سلطاتها ، ما بين النظام الايراني والتركي، والإسرائيلي، على الصعيد الإقليمي، وبين انظمة النموذج السعوديّ خليجيّا، من جهة، واشكال النموذج الناصري، في  مصر وسوريا والعراق والجزائر والسودان واليمن، من جهة ثانية، على الصعيد العربي، وبما ادّى موضوعيّا إلى تقاطع مصالح الجميع، في القيادة الديمقراطية الأمريكيّة، والمرتكزات الإستبداديّة الإقليميّة، حول هدف منع قيام انظمة ديمقراطية.

(٤)-
بدأت علاقات التشارك الاستراتيجيّة بين سياسات الولايات المتحدّة والميليشيات الطائفية مبكّرا في حروب الثورة المضادة الأفغانية، نهاية سبعينات القرن الماضي، و وصلت خلال  العقد الأخير إلى أعلى درجات التجيير وتقاطع المصالح، جعل من الميليشيات الاداة الرئيسة  للولايات المتحدة وشركائها ، في حروب هزيمة قوى التغيير الديمقراطي لشعوب المنطقة.
السبب الجوهري الذي يفسّر طبيعة السلوك الأمريكي بالإعتماد على” ميليشيات الاسلام السياسي”، هو تناقض مصالحها ، وبالتالي  رفض سياساتها  المطلق لحدوث البديل :
دعم ، ومشاركة القوى الوطنيّة ، الديمقراطية ، لتحقيق انتقال سياسي ديمقراطي، والسير على طريق بناء مقوّمات الدولة الديمقراطية الوطنية.

▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎ 16-آب- 2021 ▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎

الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع.

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة