تونس بين الاستثناء والعودة لحكم المؤسسات
منذ 25 تموز/ يوليو المنصرم بات الحدث التونسي الشغل الشاغل للمهتمين بالشأن السياسي للمنطقة، لما تعنيه التجربة التونسية من أهمية خاصة في فضاء ما يسمى “الربيع العربي”. وقد تعني هذه التطورات والمآلات الكثير لنا، كسوريين بشكل خاص، بسبب تقاطع التحولات التي جرت وما يمكن أن تؤول إليها الأوضاع، سواءً لجهة التقاطع أو لجهة التعارض، في كلا البلدين.
بداية، لابد من القول أن ما قام به الرئيس “قيس سعيّد” بعد 25 تموز/ يوليو هو إجراء استثنائي، بل ويمكن القول أنه تعدٍ على الدستور القائم، لكنه ليس بأي حال “انقلاباً”، لا عسكرياً ولا مدنياً، كما يرغب البعض في تصويره. ويمكن القول بثقة أنه إجراء استثنائي لوقف أو تعطيل عمل المنظومة السياسية في البلاد، بدون اللجوء إلى أي إجراء قمعي- على الأقل حتى الآن- وهذا ما يمكن تسميته “فرض حالة الطوارئ” لمواجهة مجموعة خطيرة من المشاكل التي تواجه الشعب التونسي والسلطة السياسية وبنية الدولة بآن.
منذ انتصار ثورتها السلمية في كانون الأول/ ديسمبر 2010 وتشكل النظام القائم، تواجه تونس الكثير من الصعوبات التي فرضتها آلية عمل مؤسسات الدولة المشكلة بعد الثورة، وأهمها مشكلات في تطبيق مبدأ “فصل السلطات”، الذي عابه بشكل فاضح فقدان الوضوح والحدود الفاصلة بين صلاحيات مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية، التي أكثر ما تجلت في الحدود المبهمة بين صلاحيات رئيس الجمهورية وصلاحيات رئيس الحكومة وصلاحيات البرلمان.و هذا الغموض هو الذي تستند عليه محاولات بعض الجهات السياسية بقصد الإبقاء على الوضع الراهن لمصلحة برامج حزبية ضيقة.
لم يعطِ دستور 2019 ، والذي حدد الحدود الفاصلة بين صلاحيات كل سلطة داخل الدولة، مؤسسة رئاسة الجمهورية، الصلاحيات المعتادة في النظام الرئاسي، وهو المتبع في انتخاب رئيس الجمهورية بالانتخاب المباشر من الشعب- التي فاز فيها قيس سعيد بنسبة 72% من أصوات التونسيين- بل وزعها على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان، وهذا ما أدى إلى تداخل وتشوش حدود الصلاحيات بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية. وإذا أضفنا إلى تلك المشاكل عدم انتخاب وتعيين المحكمة الدستورية العليا لأسباب سياسية حزبية ضيقة، يتحمل مسؤوليتها حزب النهضة تصبح الصورة أكثر وضوحاً.
إذن هناك مشكلة في الدستور الذي لا يمكن إصلاحه أو تغييره إلا باستفتاء شعبي عام، وهذه العملية غير ممكنه إلا بموافقة البرلمان وهذا غير ممكن بدوره في واقع سيطرة “النهضة” الحالي، كما أن دور المحكمة الدستورية العليا، غير الموجودة، هو بالضبط الإشارة إلى الخروقات الدستورية.
وإذا كان النقاش الدستوري والسياسي يمكن أن يأخذ فرصته في الأخذ والرد، فإن واقع الانهيار الاقتصادي والصحي في المنظومة التونسية لا يمكن إخفاؤه ولا يمكن الجدل حوله، فهو قطعاً موجود بقوة، ويكاد يطيح بكل النظام الاقتصادي والسياسي التونسي. وهنا يمكن أن نضيف أن معظم المسؤولية عن هذا الانهيار تتحملها الأكثرية البرلمانية المشاركة في السلطة منذ بداية 2011 وحتى الآن، كحزب النهضة وقلب تونس والحزب الدستوري، وهي المسؤولة أساساً عن انتشار الفساد والدفاع عنه، وعن عرقلة العمل الحكومي، وعن تشكيل المؤسسات الضرورية لعمل الدولة بيسر وبسهولة وبمقدرة عالية على كشف الفساد والخراب ومحاربة المسؤولين عنه.
بعد انطلاق التظاهرات المطالبة بمكافحة الفساد والمطالبة بفرص العمل وتوفير سبل الحياة الكريمة في أيار الماضي حاولت حكومة “المشيشي”، وهو نفسه وزير الداخلية بالوكالة، أن تقمع هذه التظاهرات والاحتجاجات بقوة الشرطة، لكن تماسك” الجيش ” ودعمه لمؤسسات الدولة والدور الحاسم ل “الاتحاد العام للشغل”، حدّا من توسع القمع ومن القضاء على الحركة الاحتجاجية.
مما سبق، لا يمكن اعتبار ما قام به الرئيس سعيّد انقلاباً على الدولة، بل يمكن اعتباره تجاوزاً على الدستور، الذي يحدد التدخل الاستثنائي ببقاء البرلمان منعقداً طيلة فترة تعليق عمل المؤسسات في المادة 80 منه، وبالتالي فإن ما قام به الرئيس هو استعمال لسلطته وفق ترجمته للدستور، الذي يسمح أصلاً بترجمات وبتفسيرات خاصة بسبب صياغته الملتبسة في بعض المواد التي تختص بفصل السلطات وتحديدها لكل سلطة ضمن النظام، فهل كان الرئيس على حق فيما فعل؟
قد يكون النقد الوحيد لما قام به الرئيس سعيد المحق هو في التناقض القائم في تفسيره أو تبريره لخطوته، لأن تعليق عمل المؤسسات وتركيز جميع الصلاحيات في يده يتناقض مع نص الدستور في بقاء البرلمان منعقداً، وبالتالي يمكن تفهم هذا التناقض في تفسير الرئيس سعيّد لأنه بحاجة لتبرير هذه الإجراءات وبحاجة أكثر للقيام بتعليق عمل هذه المؤسسات ورفع الحصانات عن أعضاء البرلمان لكي يتسنى للقضاء محاسبة بعضهم وحل الحكومة وتحويل بعض الوزراء إلى المحاكم بسبب مسؤولياتهم المباشرة عن الوضع الكارثي الذي وصلت إليه تونس.
لم يبقَ وقت طويل أمام سعيّد لإظهار الخطة التي سيعيد من خلالها الحياة إلى السلطات الثلاث في النظام التونسي، وكما يبدو فإن الكثيرين ممن انتقدوا وشجبوا خطوته قد تراجعوا عن نقدهم وأظهروا تأييدهم لاحقاً ، فهل اكتشفوا أنه قد أنقذ البلاد بضربته تلك، أم خافوا على مستقبلهم السياسي بعد أن أظهر الاتحاد العام التونسي للشغل والجيش تأييده للضربة، أم أنهم- وهو احتمال وارد جداً- انتظروا ما ستقوله أمريكا وفرنسا والمحيط الإقليمي، وعندما عرف هؤلاء أن المجتمع الدولي لم يعتبر ما جرى انقلاباً تراجعوا عن وجهة نظرهم الأولى؟ وقد يكون كل ما سبق، لكن، وبكل الأحوال، لم يقم الرئيس حتى الآن باعتقال أو توقيف الشخصيات المعارضة لخطوته، ولم تنزل الحشود إلى الشوارع رافضة إجراء الرئيس، كما لاحظنا أيضاً مرونة كبيرة من قبل حركة النهضة- المسبب الرئيسي للتعطيل السياسي في تونس- بعد أن ظهر الخلاف داخلها بسبب التعاطي مع قرار الرئيس في تعطيل البرلمان وحل حكومة المشيشي.
الأيام القادمة حاسمة أمام تونس والرئيس سعيّد، في سعيه للعودة إلى الحياة البرلمانية، واستكمال تشكيل مؤسسات حماية ورقابة الدستور كالمحكمة الدستورية العليا واستكمال تعيينات الوزراء، وقد تكون الانتخابات البرلمانية المبكرة حلاً للوضع القائم وإعادة الاستفتاء على تعديلات دستورية، وحسم شكل الحكم بين الرئاسي والبرلماني وفصل السطات بشكل واضح. من وجهة نظرنا في “تيار مواطنة” أنه قد يكون من الضروري والحاسم الآن المبادرة إلى محاسبة الرؤوس الكبيرة المسؤولة عن ملفات الفساد وعن تردي الأوضاع المعيشية، والإسراع في معالجة الكارثة الصحية، واتخاذ قرارات جريئة في وجه الأطراف المعطلة لعمل النظام وتفعيله. وقد تجعل هذه الإجراءات الإسعافية الوضع المعاشي والصحي للتونسيين أفضل، وتخلق المناخ المناسب لعودة الحياة الديمقراطية عبر عودة التونسيين لساحات الفعل السياسي والاقتصادي والثقافي واستعادة الثقة بدولتهم وتمكين مشاركتهم في الحياة العامة.
تيار مواطنة
مكتب الإعلام 17 آب/ أغسطس 2021