طالبان: الدولة الدينية الثانية في العالم

سيبقى الحدث الأفغاني موضوعاً شاغلاً للصحافة ولوسائل التواصل الاجتماعي، ربما حتى يزيحه موضوع أكثر إثارة. وبين ضجيج المواقف الإيديولوجية معطالبانأو ضدها ندر وجود التحليلات المعمقة المتعلقة بالوطنية والعمالة، والداخل والخارج، والتغيير من الأعلى، والهزيمة الأمريكية و الانسحاب الفوضوي وغيرها.

ورغم الضجيج الإعلامي الكبير بشأن فوضوية الانسحاب الأمريكي، ومناظر مطار كابول وتعلق الأفغان بالطائرات، إما لأنهم كانوا متعاونين مع الالاحتلالأو ببساطة لأنهم، مثل الكثيرين من سكان البلاد ذات الأوضاع المشابهة، يرغبون في الوصول إلى الغرب هرباً من نمط الحياة الذي سيفرض عليهم، أو ببساطة بسبب صعوبات الحياة في ذلك البلد. رغم كل هذا الضجيج فإن آلية الانسحاب وتنظيمه والأخطاء المرتكبة هنا وهناك هي بالنهاية مسألة أقل أهمية بكثير من المسائل المتعلقة بجوهرالموضوع الأفغاني.

ويبدو أن اعتبار الانسحابهزيمةأمريكية، قد داعب مشاعر الإسلاميين والقوميين واليساريين، حتى دون التفكير في طبيعة الطرفالمنتصر، لنذكر أولاً أن التدخل الأمريكي في أفغانستان حدث ليس بسبب مواجهة حركة أصولية استولت على السلطة وبهدف تغيير النظام السياسي  إلى نظام ديموقراطي، بل بسبب رعاية أفغانستان لتنظيم القاعدة الذي كان يقوده بن لادن والذي كان مسؤولاً عن عدة عمليات إرهابية كان أهمها عملية ضرب برجي التجارة في نيويورك ورفض أفغانستان تسليم بن لادن، وقد وجهت أمريكا ضربات كبيرة للقاعدة و لداعش فيما بعد، في أفغانستان وفي كل مكان في العالم.

لكن السؤال يبقى دائماً هل تكفي الضربات العسكرية في إنهاء ظاهرة اجتماعيةدينيةسياسية تمتلك دينامية عالية في البحث عن الحلقات الضعيفة والعمل فيها، وهي ظاهرة قابلة للتجدد بحكم الكثير من عوامل التاريخ والثقافة ودور أنظمة الحكم الفاشلة، وهل يكفي احتلال بلد لمدة عشرين عاماً في اختراق تلك البنية الاجتماعية العميقة وتغييرها؟ في أفغانستان كان الجواب سلبياً، وإذا كان من الطبيعي أن تتعامل أمريكا مع القوى المحلية الأفغانية التي تمتلك رؤية سياسية واجتماعية مختلفة، وهي عموماً أقرب إلى مفاهيم أكثر حداثة فيما يخص السياسية والمجتمع، فإن هذه القوى فشلت في إحداث تطور عميق غير قابل للانتكاس، تطور يجد ما يكفي من المدافعين عنه، أو على الأقل، يستطيع المحافظة على عدة مناطق أو منطقة واحدة من البلد، أو ربما يُهزم، ولكن بعد خوض معارك تظهر أهمية القيم التي كان يتبناها ويدافع عنها، وهذا الذي لم يحصل، على الأقل حتى الآن، ربما في المستقبل تجد التعبيرات الاجتماعية الرافضة لنهجطالبانطريقة ما في المواجهة، وعندها سنعرف حجمها الحقيقي.

إن المسؤولية الأولى في تغيير المجتمع هي مسؤولية النظام الأفغاني المدعوم غربياً، ولا يمكن تفسير فشله فقط بالفساد، بل بعمق تأثير البنية الدينية في المجتمع، وهو أمر يبدو متناقضاً مع طبيعة النظام الأفغاني، المنفتح نسبياً أيام الملكية، لكن تأثيرالصحوة الدينيةخاصة بعد انتصارالثورة الإسلامية الإيرانية، التي قدمت المثال في الوصول إلى السلطة والحكم، استطاع إيقاظ أقوى المشاعر الدينية في أفغانستان وغيرها، وبالطبع من المفيد أن نذكر أنطالبانهم طلاب الفقه والشريعة في مدارس مختصة في باكستان وأفغانستان.

لقد نجحت بعض محاولات التغيير الفوقي في إحداث تغيرات قسرية  تحولت إلى تغيرات دائمة في المجتمع، كما في تركيا أتاتورك وربما تونس بورقيبة، لكن تلك التغييرات ترافقت بظروف مساعدة تتعلق بأوضاع تاريخية مساعدة ومشجعة، وليس بالضرورة أن تنجح في كل مكان، طبعاً لا نقول ذلك للتخفيف من مسؤولية نظام  أشرف غنيومن سبقوه في إحداث التغيير في المجتمع الأفغاني بل لإعطاء الموضوع حقه بالمعنيين التاريخي والاجتماعي. وهنا يمكن طرح السؤال عن مسؤوليةالبلد المحتل، فإذا كان هذا البلد قد جاء لمحاربة الإرهاب أليس حرياً به مساعدة النظام في إحداث التغيير الاجتماعي وليس فقط إرسال الأسلحة وتدريب الجنود؟ أليس من مصلحته مواجهة أمكانية تجدد الإرهاب أو التطرف في المجتمع طالما لا تزال البنية الثقافية هي نفسها التي تولد التطرف؟ هنا يمكن القول أن الدور الأمريكي يكتفي بدعم قوى معارضة محلية لكنه لا يصل لدرجة المساهمة في تغيير عميق للبنية الاجتماعية.

يبدو الحديث عن هزيمة أمريكا في أفغانستان تعبيراً عن تلك الرغبة الدائمة في تحميل أمريكا والغرب مسؤولية ما يحدث في العالم، لكن قرار الانسحاب هو استمرار لسياسة العودة نحو الداخل تفادياً لخسائر بشرية، وربما تغييراً للأولويات في الصراعات الدولية و الإقليمية، هكذا فإن التغني بانتصار طالبان كان طبيعياً أن يصدر من القوى والأحزاب والشخصيات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة، فهو بالنهاية انتصار لحركة إسلامية. لكن الغريب أن يصدر الترحيب بانتصارطالبانعن قوى قومية أو وطنية باعتباره انتصاراً على أمريكا.

رغم بعض المشاكل مع طالبان أثناء عمليات إجلاء الأجانب والافغان الراغبين بالهروب، وحتى سقوط بعض الضحايا، فقد سمعنا الكثير من الأحاديث عن سلوك جديد لطالبان خاصة انضباطهم أثناء دخولهم للعاصمة وعدم ممارسة طقوس الانتصار المعروفة، وهو أمر يحسب لهم، كما سمعنا عن أن طالبان اليوم هي ليست طالبان قبل عشرين عاماً وأنهم سيسمحون للبنات بالتعلم حتى سن الثانية عشرة وبعمل المرأة وخروجها من البيت وحدها ….الخ. طبعا كل ذلك يحتاج إلى الوقت لمعرفة ماذا تغير حقيقة عند طالبان وهل هناك تغير يكفي لقبول التنوع الطائفي والإثني والمناطقي وهل يمكن أن يلبي حقوق الإنسان الأساسية ؟ وهل سيكون النظام الجديد مضطراً لقبول هذه التغييرات حتى يمكن إدماجه في المجتمع الدولي والتخلص من دمغه الإرهاب التي تصبغ التنظيم، الذي سيقود هذه الدولة، وقياداته المعروفة، وهل سيقبل بوجود أحزاب سياسية أو تنافس على السلطة، إن تجربة النظام الديني الذي سبقه في الوصول إلى السلطة، أي إيران، تظهر الحدود التي يمكن أن يقبلها مثل هذا النظام والتي في أحسن أحوالها ستقبل تعددية دينية محدودة، وفي المجال الاجتماعي ربما لن تستطيع الوصول إلى الهامش الموجود في المجتمع الإيراني أو في المجتمع السعودي كما أصبح في السنوات الأخيرة. كل ذلك يمكن أن يتغير في حال بدء صراع عسكري، وربما من وادي بانشير الذي لم تسيطر عليه طالبان بعد حيث يوجد ابن شاه مسعود، وحيث توجد الأقلية الطاجيكية، وحيث لجأ نائب الرئيس السابق وبعض القوات العسكرية.

يفترض بالمجتمع الدولي أن لا يكتفي بالتعامل مع الوضع الأفغاني من خلال موضوع استقبال اللاجئين فقط، أو من خلال تعهد النظام بعدم دعم عمليات إرهابية خارج أفغانستان،أو بمواجهة الدول التي همها إقامة علاقات اقتصادية أو سياسية مع النظام الجديد لاعتبارات إقليمية أو براغماتية، بل يجب تبني موقف عام موحد من أجل الضغط على النظام الجديد حتى يلبي حداً أدنى من متطلبات حقوق الإنسان والمرأة خاصة، ويحافظ على الحقوق المكتسبة في الفترة السابقة، في التعليم والعمل، أما تقاسم السلطة، وكل ما يتعلق بإقامة نظام عصري فيبدو مطلبا خارج سياق الممكنات بالنسبة لطبيعةطالبان“.

تيار مواطنة

مكتب الإعلام  ٢٥ آب/ أغسطس ٢٠٢١

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة