في نقد النقد الموارب – أحمد علي محمد
كتب أحمد علي محمد – مناقشة لأفكار الدكتور راتب شعبو
منذ فترة ليست بالقصيرة والدكتور راتب شعبو يتحفنا بأفكار إبداعية فيها الكثير من الجدة والجرأة والمثابرة في إطار تناوله للسياسة والعمل السياسي في وطننا العربيّ بشكل عام وسوريا بشكل خاص، ومن المؤسف أن هذه الأفكار لم تلق الاهتمام والنقاش الكافيين من قبل النخب السياسية السورية.
وللدكتور شعبو تجربة سياسية مهمة، أمضى خلالها خمسة عشر عاما في سجون الديكتاتورية، وربما مثلها في مقارعتها من خارج السجن، من خلال انضوائه في صفوف حزب العمل الشيوعي السوري في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، لذلك فإن ما طرحه من أفكار يأتي في إطار العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، أو بين النظرية الثورية والممارسة الثورية، وهو لايصرح بأن أفكاره تمثل شكلا من أشكال النقد للتجربة التي عاشها وعاينها، من خلال التعميم الذي يمارسه في كتابته، إلا أنه لايخفى على القارئ الحصيف العلاقة الجدلية بين الاثنين، وهذا طبيعي في تقديري، مع أنه من المفترض به أن تنهض به الأحزاب والتيارات السياسية لا الأفراد.
ومن خلال متابعتي لما يكتبه، يمكنني القول إنّ مساهمته في العدد/ 15/ من مجلة (قلمون-نيسان/ أبريل 2021)، والمعنونة بـ (التضامن المدني مدخلنا إلى الديموقراطية) تلخص هذه الأفكار بشكل عام، لذلك سوف أركز اهتمامي على هذه المساهمة دون سواها، كما تجدر الإشارة هنا إلى أنني أوافق الدكتور راتب في الكثير من الأفكار والملاحظات والاستنتاجات التي أوردها في بحثه، وخاصة منها مايتعلق بسلبية الناس وانسحابهم من الشأن العام وأثر ذلك في ثورات الربيع العربي، وفي اعتبار الأهداف غير المنظورة أرضية لممارسة الطغيان والاستبداد، وفي موضوعة التسييس المفرط أو حلولية السياسة، كما في موضوعة المجتمع المدني، والمجتمع الأهلي، وآلية تعاطي السلطة مع كل منهما، وإذا كنت لم أشر إلى هذه المسائل بالتفصيل؛ فلأن النقد إنما يركز بطبيعته على نقاط الخلاف بيني وبينه تحديداً.
يبدأ الكاتب مقالته/ بحثه بمصادرة تذهب إلى أن العمل السياسي يتلخص بـ(السعي إلى السلطة فقط)، وإذا كان قد أرفق عبارة (بمعناه المباشر) في مقدمة البحث، إلا أن سياق البحث يشير إلى أن الكاتب قد تبنى هذا التعريف للعمل السياسي بإطلاق، إذ يقول على سبيل المثال:” إن تفسيرنا لهذه الظاهرة (يقصد عدم مشاركة الشعب في تغيير السلطة السياسية)، يعود إلى عدم اهتمام النخب بالنضالات في مستويات متدنية، أو أدنى من السياسة” ذلك أنه يخرج مفهوم (التضامن المدني) من هذا التعريف، ويجعله ضداً له أو متوازياً معه، ومن الواضح أن الكاتب يستخلصه من خلال تتبعه للممارسة السياسية لقوى المعارضة السورية، أو للقوى السياسية السورية بشكل عام، ولكن، هل يكفي أن تكون الممارسة السياسية للقوى السياسية السورية على هذا النحو، مع أنها ليست كلها كذلك، حتى تصبح صحيحة وترتقي إلى مصاف المفهوم القارّ؟ وبدلاً من أن يوجه الدكتور شعبو سهام النقد لهذه الممارسة بالذات لكونها ممارسة عرجاء أو غير صحيحة، نراه يقفز عنها أو يتجاوزها ليطرح مفهومه الجديد والبديل حول التضامن المدني، مع العلم أن مجرد الطرح المذكور يرشح بأن الممارسة السياسية لهذه القوى لم تكن كافية لتحقيق الأهداف المنشودة على الأقل، إن لم نقل إنها كانت خاطئة، أما مفهوم التضامن المدني بوصفه اشتباكاً مع الطغيان في مستويات منخفضة فيبدو لي أنه يشتمل على شقين، أولهما هو النضال المطلبي، وأما الثاني فهو المستوى الاقتصادي من الممارسة السياسية، كما يسميه المفكر الراحل الشهيد مهدي عامل، أما بخصوص النضال المطلبي، وعلاقته بمفهوم التضامن المدني فنرى أن الكاتب يشير إلى هذه العلاقة حين يقول في فقرة (هل الديموقراطية هي الحل) ” هل يكون انعدام شرعية السلطة السياسية في مجتمعاتنا هو مصدر التشنج الأمني الدائم وخشيتها من أي نقد وارتدادها العنيف ضد أي نشاط مستقل حتى لوكان مطلبيا“.
وإذا كان الأمر كذلك يصبح التعميم الذي يجريه الكاتب حول خلو التاريخ السوري الحديث منذ الاستقلال من نضال كهذا جائراً وغير صحيح، ففي تاريخ الحركة العمالية السورية صفحات مشرقة من هذا النضال، ومن يراجع وثائق وسجلات الحزب الشيوعي السوري منذ الاستقلال وحتى سبعينيات القرن المنصرم سيجد أن الحزب المذكور لم يكن بعيدا عن هذا النوع من النضال ، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الحزب لم يكن يضع الاستيلاء على السلطة السياسية هدفاً مباشراً له في أي مرحلة من مراحل نضاله، وهذا يخرق التعريف الذي استند إليه الكاتب في بحثه، والذي أشرنا إليه أعلاه، وذلك انطلاقا من كون الحزب يعتبر نفسه حزب الطبقة العاملة التي لم تبلغ من القوة والعدد والرشد ما يؤهلها لتحمل مسؤولية السلطة السياسية، ولعل هذا الأمر أن يكون أحد أهم المآخذ التي كانت جماعة اليسار الجديد توجهها للحزب، واصفة إياه بـ(الانتهازية)، وليس الأمر هنا دفاعا عن الحزب، أو تبرئة له من الأخطاء، أو حتى من صفة الانتهازية، كما قد يفهم بعضهم، ولكن فقط للإشارة إلى دور الحزب التاريخي في النضال المطلبي، وذلك قبل الانقسام التاريخي الذي حدث له في أوائل سبعينيات القرن المنصرم، وفي الواقع لقد أصبح هذا الحزب (انتهازيا)عندما استقال من النضال المطلبي ومن كل أنواع النضال الأخرى، من خلال رضوخه لشروط الاستبداد، ودخوله طائعا في قفص ما سمي بـ(الجبهة الوطنية التقدمية)، والتخلي بالتالي عن دوره التاريخي المستقل، وهذا أمر يحتاج إلى بحث خاص ليس مجاله هنا.
لقد ارتبط النضال المطلبي عموماً بالطبقة العاملة والحركة العمالية في مختلف البلدان، وهو نضال عفوي قبل أن يتحول إلى نقابات واتحادات نقابية تقوده وتوجهه، تقوم به الطبقة العاملة من أجل تحسين شروط حياتها المعرضة للتعدي بشكل دائم من قبل رأس المال، الساعي إلى مزيد من الربح، مثل زيادة الأجور، وتحديد ساعات العمل، والضمان الصحي، والضمان ضد الشيخوخة وغيرها، وقد تقوم به الفئات الاجتماعية الأخرى من خلال نقاباتها واتحاداتها المختلفة، وهكذا يتبين لنا أن النضال المطلبي (التضامن المدني) هو تعبير عفوي عن حضور المجتمع المدني وتطوره في مرحلة معينة من التطور الرأسمالي لبلد ما، وليس فعلا إرادويّاً تقوم به نخب معينة كما يذهب الكاتب.
ولاشك في أن الترسيمة السابقة لا تتوافق مع الوضعية الملموسة لبلداننا بشكل عام، ولمجتمعنا السوري بشكل خاص، الذي يشهد ضمورا متزايدا للمجتمع المدني، وتراجعا للنضال المطلبي يصل حد التلاشي، هذا التراجع الذي بدأ منذ سبعينيات القرن المنصرم، والذي يمكن تفسيره بعدة أسباب يأتي في طليعتها: تحول الاقتصاد السوري إلى اقتصاد ريعي إثر الفورة النفطية التي أعقبت حرب تشرين 1973، ومن ثم تدفق الرساميل الخليجية إلى الخزينة السورية، وتوظيفها في قطاعات هامشية كالبناء والتشييد والخدمات والسياحة وغيرها، الأمر الذي انعكس تبدلا جوهريا في تركيبة الطبقة العاملة السورية، وتراجعا في طاقتها الثورية، وثانيا ازدياد شدة القبضة الأمنية، وبروز ما سمي بالدولة الأمنية في الثمانينيات، وثالثا احتواء الحركة النقابية وتدجينها من قبل النظام، والذي بدأ منذ أوائل السبعينيات، وكان له عميق الأثر في تثبيت ركائز الاستبداد، وأسباب أخرى عديدة لامجال لذكرها في هذه العجالة.
إن غياب المجتمع المدني أو ضموره، وبالتالي تراجع وانحسار النضال المطلبي يلقي بأعباء إضافية على كاهل العمل السياسي، وهنا تبرز أهمية المقولة التي يدرجها الكاتب في سياق بحثه ألا وهي” الاشتباك مع الطغيان في مستويات منخفضة”، لكن هذا الاشتباك أو هذا الشكل من النضال ليس من خارج العمل السياسي كما يرى الكاتب، أو إلى جانبه، بل هو من صلب العمل السياسي، فالعمل السياسي في تقديري هو كل نشاط واع يقوم به فرد أو جماعة، ويهدف إلى التأثير في الشأن العام، وسواء سميناه عملا سياسيا أو تضامنا مدنيا أو نضالا مطلبيا فإنه يظل عملا سياسيا بامتياز، وهنا أرى أنه من المفيد العودة إلى التحديد الدقيق الذي قام به المفكر مهدي عامل في كتابه الشهير(مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركات التحرر الوطني) حيث يقول : “إن البنية الاجتماعية تمر في ثلاثة أطوار، أو ثلاثة أزمنة مختلفة، هي زمن التشكل، وزمن التطور أو الزمن البنيوي، وزمن القطع أو الزمن الثوري، ولكل زمن من هذه الأزمنة شكل من الممارسة السياسية يتناسب معه، وإن الخلط بين هذه الأزمنة واعتبارها زمنا واحدا يؤدي إلى نتائج وخيمة على الحركة الثورية، كما أنه يقسم الممارسة السياسية إلى ثلاثة مستويات أو حقول، هي المستوى السياسي، والمستوى الاقتصادي، والمستوى الأيديولوجي. وفي ظني أن الممارسة السياسية في الزمن البنيوي أو زمن التطور والذي يعتبر أطول الأزمنة إنما تتحدد في المستويين الأيديولوجي والأقتصادي، وذلك نتيجة هيمنة الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة في هذا الزمن، التي تسعى إلى نبذ الطابع السياسي للصراع الطبقي، أي حرفه عن جوهره بوصفه صراعاً سياسيّاً، ليتجلى على المستويين الاقتصادي والأيديولوجي، وأن أية محاولة لخوضه على المستوى السياسي في هذا الزمن ستبوء بالفشل، كما يفعل اليساريون من متثوري البورجوازية الصغيرة على حد تعبير مهدي عامل، أما ممارسته على المستويين الاقتصادي والأيديولوجي فهي الممارسة الصحيحة برأيه، وهي بالضبط ما يسميه الكاتب في مقاله بالاشتباك مع الطغيان في مستويات منخفضة، ومن الجدير ذكره هنا أنه لكي تنجح هذه الممارسة فإنه يتوجب وقف التحريض السياسي في هذه المرحلة، والتركيز على جانبي الدعاية والتنظيم، وهذا مالم تقم به أغلب أحزاب المعارضة السورية؛ إذ تتيح الممارسة الاقتصادية للصراع الطبقي، للأحزاب إمكانية بناء الروابط والوشائج بينها وبين الناس، من خلال الدفاع الحقيقي واليومي عن مصالحهم ومعايشة همومهم والتعرف على مشاكلهم اليومية والملحة، كما أنها تحفزهم على الانخراط أكثر فأكثر في الشأن العام، وتخرجهم من حالة السلبية التي يعيشونها، وهكذا تتعلم منهم، وتعلمهم في آن معا، بحيث عندما ينتهي زمن التطور أو الزمن البنيوي، وتدخل البنية الاجتماعية في زمن القطع، أو الزمن الثوري تكون هذه الأحزاب قادرة على قيادة الجماهير وتوجيهها بما راكمته معها من عوامل الثقة والكفاح المشترك الطويل.
هكذا يقيم الكاتب فصلا تعسفيا وحادا بين النخبة والشعب، حتى ليظن القارئ بأن هذه النخبة قد هبطت من كوكب آخر، أو من بلد آخر، فهي عنده مفهوم مجرد وجوهري لايتغير ولا يتبدل، وهي ليست من الشعب، ومصالحها غير مصالحه، فكل النخب عنده سواءٌ على الأقل في موقفها من الشعب، أما نحن فنذهب إلى أن النخبة ليست ثابتة بل هي مفهوم تاريخي متغير، ولها مفهوم محدد قبل استلام السلطة مغاير لمفهومها بعد استلام السلطة، كما أنها متباينة من حيث منابتها الاجتماعية وتوجهاتها الأيديولوجية، وما الصراعُ الذي نشب في حزب البعث، بعد استلامه السلطة في ستينيات القرن الماضي، إلا تعبيرٌ عن هذا التباين والاختلاف داخل النخبة البعثية ذاتها من جهة، وبينها وبين باقي النخب من جهة ثانية، لذلك أظن أنه لا يمكن حشرها في مفهوم واحد وثابت، كما لايمكن الفصل بينها وبين الشعب؛ فهي صورة عنه، وتعبير عن تنوعه، والغريب أن الكاتب الذي يقوم بهجاء النخب بشكل عام في بداية بحثه، نراه حين يتحدث عن التضامن المدني، يقول بأن من سيقوم بهذا النضال هي نخبة مدنية، والسؤال هنا: ماهي خصائص هذه النخبة المدنية ؟ وما الذي يميزها من باقي النخب في المجتمع؟
في معرض حديثه حول الروابط الأهلية والروابط المدنية وآلية تعاطي السلطة مع كل منهما، يؤكد الكاتب أن “الفشل في تكوين شبكات حماية مدنية، بصرف النظر عن الأسباب، كان من بين أسباب عدم ضمور الروابط الأهلية واحتفاظها بوظيفة الحماية في أيامنا”، ثم يدعو إلى العمل من أجل” بناء شبكة حماية مدنية تطال كل جوانب التعدي الممكنة على شروط حياة الأفراد، هو النشاط الذي يتطلبه مجتمعنا”، والسؤال هنا هو: لماذا تجنب الكاتب البحث في أسباب الفشل في تكوين شبكات حماية مدنية؟ أليس من المحتمل أن تكون هذه الأسباب أو بعضها مازال فاعلا ومؤثرا، الأمر الذي قد يؤدي إلى فشل جديد؟ إن تغييب أو إهمال العوامل الموضوعية التي أفضت إلى تراجع المجتمع المدني وضموره في معظم البلدان العربية، يجعل وجهة نظر الكاتب ترشح بنزعة إرادوية، وذلك من خلال تضخيم دور النخب ولومها لاهتمامها بالسياسة بماهي نضال من أجل السلطة، وعدم إعطائها الأهمية الكافية لمواجهة الطغيان بمستويات منخفضة، إذ يبقى السؤال قائما هنا وهو: إذا كانت النخب بشكل عام أنانية ولاتهتم إلا بمصالحها، لماذا لم تفرز البنية الاجتماعية تعبيرات بديلة تغطي هذا المستوى من النضال؟ أو ماهي الشروط الموضوعية والذاتية التي أفضت إلى الفشل في بناء شبكة الحماية المدنية، الضرورية لخلق التوازن بين الدولة والمجتمع؟. وهل تحسنت شروط بناء مجتمع مدني، أو شبكة حماية مدنية، بعد عشر سنوات من الحرب وعمليات التدمير الممنهج التي طالت كل جوانب الحياة السورية؟، من تدمير وسرقة آلاف المعامل، إلى هجرة الرساميل الصناعية بشكل خاص، وتحول الاقتصاد السوري إلى اقتصاد حرب وارتزاق خارجي. إن الأسئلة السابقة وغيرها تبقى برسم الإجابة من قبل الكاتب وكل المهتمين بالشأن السياسي السوري، إذ لايمكن وضع بدائل أو مقترحات للمستقبل دون تكوين رؤية دقيقة وواضحة للماضي والحاضر وفهم أسباب الفشل والتردي الذي وصلنا إليه، وما من شك في أن بحث الدكتور شعبو يصب في هذا الاتجاه، وآمل أن يكون هذا المقال محاولة متواضعة للوصول إلى ذلك، وبلورته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب سوريّ
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع.
بحث الدكتور راتب شعبو كان قد نشره موقع تيار مواطنة سابقا
https://mouatana.org/archives/15383
أحمـد عزيـز الحسيـن - كاتب سوري
مقال عميق ينم عن مواكبة حثيثة لعلاقة النخبة بسياقها الموّار، وما يطرأ عليها من تحول في ضوء علاقتها بسياقها، وهو مقال يكشف عن القصور الذي طال المسار الذي اختطته هذه النخبة في علاقتها مع واقعها، وما طرأ عليها من تبدل في الفكر الذي حدد علاقتها مع الشرائح الاجتماعية التي تتحرك في هذا الواقع.