الباسيفيكي: نبع للعواصف المقبلة – موفق نيربية
في كاريكاتير جاء في صحيفة «نيويوركر» تقول سيدة في نزهة في الحديقة العامة لرفيقتها، وقد غطت أوراق الخريف دربهما: من فضائل الخريف أنه يخفي القمامة على الأرض!».. وورد في المأثور »إذا ابتُليتم بالمعاصي فاستتروا»؛ وإلّا فلماذا كانت خطوة اتفاق الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا على معاهدة «أوكوس» الأمنية التي نتجت عنه صادمة ومفاجئة إلى الحدّ الذي رأيناه؟
ومن ناحية مختلفة قليلاً، ألا يمكن الركون إلى تفسير جديد لخروج الجيش الأمريكي من أفغانستان؛ الذي كان بدوره نصف مفاجئ على الأقل؛ يضع الحدثين على خط منطقي واحد؟
هاجت الدنيا على إدارة بايدن لانسحابها ذاك، بما أحدثه من فوضى، خصوصاً بما أهداه من انتصار داوٍ حققته طالبان، وأعطى انطباعاً خفياً عن نوع من فشل للحرب على الإرهاب، التي ابتدأت منذ عام 2001، وكلفت مبالغ هائلة من الأموال، من دون ذكر فقدان الأرواح الأكثر أهمية. واحدٌ من الحدثين يقع على طريق الحرير الجديد – مشروع الصين للمستقبل – ويقطعه في بعض خطوطه البرية، بأخطار لا يمكن التنبؤ بها، والثاني يؤسس لدوريات دائمة على خطوطه البحرية.
يتزامن الإعلان عن معاهدة» أوكوس» مع انعقاد مؤتمر منظمة شانغهاي للتعاون، بحضور إيران، بعد قبول عضويتها فيه بدعم من كلٍّ من روسيا والصين. ولعلّ «أوكوس» يكون بذلك ضربةً وإضعافاً لهذه المنظمة ومستقبلها، خصوصاً أن عدة أطراف مهمة فيها – كالهند وكوريا الجنوبية مثلاً – تبدو متحمّسة للمعاهدة الجديدة والوضع الحرج الذي تشكله للصين وطموحاتها الدولية الموعودة أو الواعدة.
على الرغم من صعوبة ذلك، تحاول هذه المقالة تلمّس انعكاسات الأمر على منطقتين، يبدو أنهما ستزدادان التحاماً في المرحلة المقبلة، انطلاقاً من الآلام والآمال المتقاطعة: أوروبا والشرق الأوسط. تربط بينهما قضية اللاجئين التي ما تزال على التهابها؛ وقضية التطرّف والروح التوسّعية الإيرانية، بتفصيلاتهما وتنقّلاتهما المزعجة؛ ومسألة الاستبداد والطغيان والشعبوية وتداخلهما. تربط بينهما أرض تميد بالزلازل والاهتزازات، مع أنها كانت دائماً تعد بالازدهار والاستقرار المفقودين. أعطى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دفعاً كبيراً للاستراتيجية الفرنسية في المحيطين الهندي والهادئ، في خطاب له في زيارته عام 2018 إلى أستراليا، حين حدد «محور المحيطين الهندي والهادئ» الذي شكلته فرنسا والهند وأستراليا لموازنة الصين. في ذلك الوقت، كانت كانبيرا نفسها ما تزال مترددة في الانخراط بعمق في الرباعية، والحوار الأمني الرباعي، الذي يجمع أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة. بالغ الدلالة أن تلك الاستراتيجية الفرنسية، صدرت بشكل متواقت مع الإلغاء الموجع لعقد الغواصات بين البلدين، بقيمته التي تساوي بضع عشرات المليارات، الأمر الذي يوجّه بدوره ضربة كبيرة لتلك الاستراتيجية، خصوصاً باستبداله بطريقة مهينة بعقد آخر دُبّر بليل. ذلك قد يكون جزءاً من السياق الذي كوّن ردّ الفعل الغاضب الفرنسي بشكل غير مسبوق.
يبدو أن مباراة ترامب وبايدن تفعل فعلها بدون توقف، ليسابق الثاني الأول على مفهوم «الانسحاب» ثمّ ليدخل بقوة إلى المحيط الهادئ بدلاً من دخول ترامب على» الفيروس الصيني» وحده. وفي الواقع، تزايد تأثير العامل الانتخابي في الاستراتيجية الأمريكية مؤخرا، ليجعل السياقات الدولية تحفل بالمفاجآت؛ وتلك ظاهرة أخرى لها أخطارها على النظام الدولي، نظاماً كان أم مشروع نظام قيد التشكيل.
وإذا كان ترامب قد احتفل بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واعتبره دعماً وعودة للمحور الأنغلوساكسوني – البروتستانتي، وأن الولايات المتحدة قد استردّت بريطانيا ورأت في العملية تجريفاً جوهريّاً في الاتّحاد الأوروبي، الشيء الذي كان مجرّد حسابات خاطئة بالتأكيد. لا يتنافى ذلك مع رؤية العملية من خلال كونها ضربةً مهمة إلى فرنسا بغواصاتها الضائعة – كما أسلفنا- واستراتيجيتها المهتزة، لتعيدها إلى حجمها من دون ورم. في حين تظهر ألمانيا متوازنة، ولم تتفاجأ كثيراً، لأنّها تعاني منذ أيام ترامب مع السياسة الأمريكية، ولا تتوافق معها كثيرا في ما يتعلّق بسياستها الصينية، حيث توجد شراكة مهمة وقابلة للتطوير بين دبّ أوروبا وتنين آسيا. ومع الانتخابات الألمانية وتغييراتها، لا يبدو أن هنالك تغييراً سيطرأ على تلك السياسات، إذا وضعنا جانباً ما يشكّله غياب ميركل من فراغ لم تجر معايرته بعد. تغيير كبير آخر ربّما ستتكاثر مظاهره في الفترة المقبلة ببطء، في الشرق الأوسط. هنا، لن تتحدّى الاستراتيجيات الأمريكية متطلبات أمن إسرائيل حتماً، وإن كانت من جهة أخرى تعبيراً حاسماً عن انخفاض نسبي لدور نفط الشرق الأوسط وغازه. هذه الناحية يمكن متابعتها من دون حشد عسكري كبير، لإسرائيل وأوروبا وتركيا، وحتى روسيا أن تنتظم في عقد يؤدي دوراً أفضل، لن يستطيع تجاهل الأولويات الأمريكية مهما استقلّ. سوف تنسجم اتجاهات خفض الوجود العسكري المباشر مع ما يجري في المحيط الهندي والهادئ، ولكن سيكون هنالك مزيد من الجهد للمحافظة على الترتيبات الأمريكية في الشرق الأوسط، ومنع الانزلاق إلى عناصر توتر غير مرغوب بها، إلّا ما اقتضته مصالح توريط الآخرين وإغراقهم في مستنقعاته. وربّما- فقط ربّما – ستدفع هذه التطوّرات لاستعراض الفاعلية الأمريكية وفرض احترامها، بعد أن كان الخيار السابق مستنداً إلى التمهّل والانتظار، وترك الأمور لتنضج في ما بعد بعناصرها الصعبة الهضم.
ليست عديمة الأهمية مسألة الاتفاق النووي، الذي ما زال حيّاً وربّما قريب، وكذلك مسألة حلّ تعارضه مع المصلحة الإسرائيلية والخليجية، إضافة إلى وضع العراق الحساس في مرحلة انتخاباته القريبة، ولا وضع داعش الذي مازالت ذيوله حيّة وقابلة للحياة والانتعاش، أو تهديدات حزب الله في سوريا ولبنان وعلى الحدود الإسرائيلية. كما يمكن للتوتّر الحالي في العلاقات التركية الأمريكية أن يدفع حكومة العدالة والتنمية نحو التنازل أمام الروس أكثر فأكثر، رغم ما يبدو من أن ذلك الاحتمال قد بلغ أو يكاد يبلغ حده الأقصى، الذي لا بدّ أنه سيتوقف عنده في النتيجة والمآل. لن يتأخّر كثيراً في الأعمّ الأغلب ما تفرضه متطلبات الاستقرار من جديد، مع استعراض إضافي للعضلات الصينية، ربّما تلجأ من خلاله إلى كوريا الشمالية وطالبان، أو إلى حدود جزيرة تايوان الهشة أساساً لتهزّها، إدراكاً على الأقل للقوة المعنوية الطارئة التي جاءتها من التحالف الجديد، وحماسة اليابان وكوريا الجنوبية ـ والهند – قبلهما لاسترداد الأنفاس. فهل يدفع الإحساس بالحرج إلى أن تمنح الصين إلى روسيا بعض ما تريده من تصدّر عالميّ – تحنّ إليه بشدّة- لموازنة الأمور؟ لم يؤكّد مثل هذا الاحتمال ما قاله المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشؤون منظمة شنغهاي للتعاون، بختيور خاكيموف، من أن منظمة شنغهاي للتعاون» منظمة غير منحازة، وهي لا تضع نفسها في مواجهة التحالف الأمني الجديد». ورغم ذلك، مازال الوقت مبكّراً على الاستنتاج الحاسم بشأن الموقف الروسي. وتتطلّع روسيا إلى مسألة العقوبات المفروضة عليها، وإلى قضيتي أوكرانيا وسوريا، وإلى العلاقات مع أوروبا في ظلّ التوتر الجديد.. بشكلٍ ربّما يزاحم أهمية الاصطفاف المباشر إلى جانب الصين، بغضّ النظر عن الإعلانات والمناورات العلنية. وبالنسبة إلى سوريا، ربّما ينعكس الأمر تسليماً بوكالات للآخرين فيها، أو حسماً سياسياً أكثر تعبيراً لمشكلتها، ويمكن في كلّ الأحوال تقدير اتجاهات رياحها بشكل أفضل في الأسابيع المقبلة.. وفي كلّ حال، لعلّنا مقدمون على فصل جديد من العلاقات الدولية لا نعرف آفاقه، ولا حدوده.
القدس العربي – ٢٨-٩-٢٠٢١
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع.