ردّ على ردّ – أحمد علي محمد

استكمالا وتعميقا للنقاش الذي بدأ مع الصديق الدكتور راتب شعبو، وبما يسهم في إغناء الموضوع مادة السجال، أعني ” التضامن المدني مدخلنا إلى الديموقراطية”، ودون التوقف عند الأمور الشكلية المتعلقة بعنوان المقال الذي كتبته في نقد ومساءلة المقال المنقود، والذي جاء انطلاقا من قناعتي بأن ما يطرحه الكاتب في مقاله هو نقد للمارسة السياسية للقوى السياسية السورية بشكل عام، لكن هذا النقد يأتي بصيغة غير مباشرة (مواربة) مع قناعتي بأن ماكتبه الدكتور راتب في مقاله لايتعلق بتجربة بعينها وإنما هو يطال مجمل الممارسة السياسية في المرحلة الماضية والتي لاتختلف كثيرا في جوهرها بين هذا الفصيل وذاك، وأن ماقصدته إنما هو التأكيد على العلاقة الجدلية بين الممارسة السياسية والنظرية السياسية، أو بين الواقع والفكر بشكل عام، وهذا الأمر يطال كل من يكتب في الشأن السياسي بعد تجربة عملية خاضها، ولابد لي في البداية من أن أشكر الدكتور راتب على رده الذي أضاء على بعض النقاط التي بها بعض الالتباس أو عدم الوضوح في نقدي لمقاله، وخاصة منها مايتعلق بموضوع النضال المطلبي وهل هو نضال سياسي أم لا؟ والفرق بين النضال المطلبي من جهة والمستوى الاقتصادي من الممارسة السياسية من جهة ثانية.

لذلك سوف أبدأ من التعريف الذي أوردته للعمل السياسي، والذي لم يوافقني عليه الكاتب على مايبدو وهو أن العمل السياسي هو” كل نشاط واع فردي أو جماعي يهدف إلى التأثير في الشأن العام” وحين نقول الشأن العام فإننا نقصد أن هذا النشاط لايهتم بشأن فئة اجتماعية محددة في المجتمع مهما كان حجمها أو عددها، وهذا مايميز العمل الحزبي عن العمل النقابي، ذلك أن النقابة تهتم بمصالح الفئة الاجتماعية التي تضمها أو تمثلها، بينما الحزب يهتم في نشاطه بشؤون المجتمع ككل، لذلك فإنني أرى أن النضال المطلبي يظل مادون السياسة حين تمارسه فئة اجتماعية بعينها كالعمال أو الفلاحين أو الطلبة أو غيرها، سواء كان عفويا أم موجها من قبل نقابة معينة، أما المستوى الاقتصادي من الممارسة السياسية فهو ممارسة القوى السياسية للنضال المطلبي التي تختلف عن الممارسة النقابية في أن الممارسة الحزبية تمارس هذا المستوى من النضال مع كافة فئات المجتمع وليس مع فئة بعينها، فهي تهتم بالأوضاع المتردية للعمال والفلاحين والمعلمين والمهندسين وو…الخ، هذا من جهة ومن جهة ثانية أن القوى السياسية حين تمارس النضال المطلبي فإنها تعمل على استثمار هذا الشكل من النضال ودمجه في بوتقة عملها السياسي العام. لاشك بأن ثمة منطقة تقاطع بين دائرتي العمل المذكورين آنفا، وهذه المنطقة هي التي تسمح للعمل السياسي بالتشبيك مع الشعب بفئاته المتنوعة ومشاركته همومه ومشاكله، إن التوكيد على الطابع العفوي للنضال المطلبي أي المنطلق من الفئات الاجتماعية المتنوعة ذاتها لايلغي دور النخب السياسية في التفاعل مع هذا النضال وتثميره، لكن هذه النخب لاتستطيع القيام بهذا الدور منفردة، فالأساس به هو اهتمام الفئات الاجتماعية المتنوعة بأوضاعها وكفاحها من أجل تحسين هذه الأوضاع، إن ما أوردته في نقدي السابق حول النزعة الإرادوية عند الكاتب إنما يتمثل في كونه يركز في مقاله على أن التضامن المدني تقوم به ” النخب المدنية” ومنذ البداية، وفي حين يركز الكاتب على ضرورة استقلال هذا الشكل من النضال عن الأحزاب السياسية كونها تفسده بخلافاتها، أي أنه يلغي مساحة التقاطع التي أشرت إليها، فإنني أرى على العكس من ذلك أن مشاركة القوى السياسية في النضال المطلبي قد يكون عامل تقريب بين هذه القوى وعامل تصويب لممارستها السياسية، تتعرف من خلاله على بعضها في ساح النضال الفعلي بعيدا عن العصبوية والتوجس والحساسيات، ما يفتح المجال لعقد تحالفات وجبهات تتوافق على برامج الحد الأدنى الممكن في كل مرحلة، ناهيك عن أن هذا الفصل بين النضال المدني والنضال السياسي غير ممكن في الواقع العملي، إن النخبة المدنية التي يريدها الكاتب أن تقوم بالنضال المدني ليست موجودة في الواقع، ذلك أنه يطالبها بالقيام بنضال لن يكون لها مصلحة مباشرة به، الأمر الذي لايتوافق مع البنية الاجتماعية والنفسية للنخب بشكل عام، فمشاركة النخب في العمل السياسي وفي الشأن العام عموما تتم لأن ذلك يتلاقى مع طموحات هذه النخب في الارتقاء وفي التعبير عن ذاتها وهذا حق لها لانستطيع نكرانه، فهنا يندمج الخاص بالعام في وحدة كلية، أما حين يراد لها أن تقوم بنضال أو نشاط لمصلحة المجتمع وحسب منزهة نفسها عن أية مصلحة، مع ما يتطلبه ذلك من جهد وتضحيات فإن هذا يحتاج إلى قديسين أو ملائكة شعبيين وليس إلى نخب موجودة في الواقع ومتوضعة في المجتمع.

كنت أتمنى على الكاتب أن يولي قدرا أكبر من الاهتمام في رده بالإجابة على الأسئلة التي طرحتها في نقدي والمتعلقة منها بالعوامل الموضوعية التي أدت إلى تراجع النضال المطلبي وانحسار المجتمع المدني في سوريا في المرحلة السابقة على الانفجار السوري الكبير، خاصة أنه لم يوافق على التفسير الموجز الذي أوردته في نقدي لمقاله، وإذا كان يلقي باللائمة على النخب التي ركزت نشاطها واهتمامها على العمل السياسي بشكله المباشر، فإن السؤال الذي يبقى قائما هو: لماذا لم يفرز المجتمع بدائل نخبوية تهتم بالتضامن المدني طالما أن هذا الشكل من النضال ضروري ومطروح على جدول أعمال التاريخ في المرحلة المعنية؟. إن المدخل إلى الديموقراطية كما أرى إنما يكون باتباع النهج الديموقراطي في العمل السياسي ، وهو ما سأتناوله في الفقرة التالية.

الديموقراطية والانقلابية في السياسة السورية.

لم تكد سوريا تحصل على استقلالها عن فرنسا الدولة المنتدبة، في السابع عشر من نيسان / أبريل 1946 ،وذلك بعد سلسلة من النضالات الشعبية والمفاوضات السياسية، وبتأثير الوضع العالمي الذي آذن بانتهاء الحقبة الاستعمارية، حتى حصل أول انقلاب عسكري في دمشق وهو انقلاب حسني الزعيم في مارس/ آذار 1949 مدشنا تدخل العسكر في الشؤون السياسية ليس في سوريا فقط بل في عموم المنطقة، ثم تلاه انقلابين آخرين، هما انقلاب سامي الحناوي في أغسطس/ آب، وانقلاب أديب الشيشكلي الأول في ديسمبر/ كانون الأول من نفس العام، ثم حصل انقلاب آخر للشيشكلي في عام 1951، وحتى الفترة الديموقراطية اليتيمة في سوريا / 1954-1958 / فقد تم التأسيس لها بانقلاب عسكري انطلق من حلب بقيادة العقيد فيصل الأتاسي، الذي قام بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية.

ولكن هل يقتصر مفهوم الانقلابية على تدخل العسكر في السياسة، أو استيلاء العسكر على السلطة السياسية، أم أنه يتعداه إلى نهج عام في العمل السياسي غايته الوصول إلى الأهداف (السلطة) بأسرع الطرق وأقل جهد ممكن؟. في السابع من نيسان عام 1947 انعقد المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي، وانبثق عنه وثيقة تأسيسية تدعى دستور الحزب، وقد جاء في المادة السادسة من المبادئ العامة من هذا الدستور مايلي :” حزب (البعث العربي) انقلابي، يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث الأمة العربية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الانقلاب والنضال، وان الاعتماد على التطور البطيء والاكتفاء بالإصلاح الجزئي السطحي يهددان هذه الأهداف بالفشل والضياع”.

وإذا كان من الصحيح القول بأن مفهوم الانقلاب كما نصت عليه الفقرة أعلاه يعتبر أوسع من مفهوم الانقلاب العسكري، إلا أنه لاينفيه أو يستبعده كوسيلة في الوصول إلى هذه الأهداف، خاصة أن الحزب قد لجأ فيما بعد إلى الانقلاب العسكري في كل من سوريا والعراق للوصول إلى السلطة والاستفراد بها. يتبين لنا إذن أن النهج الانقلابي لايقتصر على الانقلاب العسكري، وإنما هو نهج قوامه تنظيم عصبة معينة وفق مبادئ وأيديولوجيا محددة، وانتظار نضج الأوضاع الاجتماعية لقيام هبة شعبية ومن ثم تنطح هذه العصبة (الحزب) لقيادة هذه الهبة والوصول إلى السلطة من خلالها، كما حصل في مصر على سبيل المثال حيث استطاع تنظيم الإخوان المسلمين ركوب موجة الاحتجاجات والوصول إلى السلطة بعد ثورة يناير ، وفي الواقع يبدو أن القوى الإسلامية هي الوحيدة التي تستطيع تطبيق هذا النهج عبر استغلالها للتدين الشعبي وتجييره لصالحها.

مقابل هذا النهج في العمل السياسي الذي يمكن أن نسميه النهج الانقلابي، هناك نهج آخر هو النهج الديموقراطي، الذي يعتمد على كسب ثقة الجماهير والعمل ضمن صفوفها وتوعيتها وتنظيمها، وذلك بغية تحقيق سلطة مجتمعية تشكل الركيزة الرئيسية للوصول إلى السلطة السياسية عبر صناديق الاقتراع، التي تحدد بدورها حصة كل حزب أو تيار سياسي من السلطة عبر ممثليه في البرلمان المنتخب، هذه الحصة التي قد تزيد أو تنقص عند كل دورة انتخابية جديدة، وذلك تبعا لعوامل متعددة يأتي في طليعتها أداء وسياسات هذا الحزب في الدورة المنصرمة، ومدى اتساق هذا الأداء وهذه السياسات مع مصالح الناس.

يؤدي النهج الانقلابي إلى الاستبداد السياسي سواء تم بانقلاب عسكري أو انقلاب سياسي، فالنخبة التي تستلم السلطة في غفلة عن المجتمع لاتستطيع الاستمرار بسلطتها دون مصادرة حق الآخرين بالعمل السياسي وحقهم في التعبير عن اختلافهم معها، بينما يؤدي النهج الديموقراطي إلى تكريس الديموقراطية في المجتمع، إذ إنه يقوم أساسا على نشر قيم الديموقراطية وتحفيز وإدماج المزيد من شرائح المجتمع للاهتمام بالشأن العام والدفاع عن مصالحها في مواجهة طغيان السلطة من جهة والفئات الاجتماعية المستغلة لها من جهة ثانية، وفي هذا السياق تظهر أهمية النضال المطلبي وضرورته بما هو اشتباك مع الطغيان في مستويات منخفضة، إن مايحدد مستوى الاشتباك مع الطغيان هو طبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع، ودرجة استقرار الأوضاع الاجتماعية، ونضج الظروف العامة لإحداث التغيير، وهذا ما أشرنا إليه في تحليل المفكر الراحل مهدي عامل وتقسيمه البنية الاجتماعية إلى أزمنة مختلفة واختلاف الممارسة السياسية في كل زمن منها عنها في باقي الأزمنة، بمعنى أن الاشتباك مع الطغيان في مستويات منخفضة عندما تكون البنية الاجتماعية مستقرة شرط ضروري ولازم لتحقيق إمكانية الاشتباك معه في مستويات عليا عندما تدخل البنية الاجتماعية في زمن القطع أو الزمن الثوري، وإن الخطأ الذي تمارسه القوى السياسية هو في عدم التمييز بين هذه الأزمنة، الأمر الذي يجعلها تشتبك مع الطغيان في مستويات عليا في كل الأزمنة من خلال استهدافها الدائم للسلطة ورأس السلطة، الأمر الذي يجعلها عرضة للملاحقة الدائمة ويحرمها بالتالي من إمكانية التواصل مع الفئات الشعبية المختلفة، بحيث عندما تنضج الشروط الموضوعية وتصل البنية الاجتماعية إلى الزمن الثوري تجد هذه القوى نفسها معزولة وضعيفة ولاقدرة لها على ملاقاة هذا الزمن الثوري، فتفقد إمكانية التأثير في الأحداث.

إن الفارق النوعي بين النهجين الانقلابي والديموقراطي كما أرى إنما يتمثل في الهدف أو موضوع الاهتمام، ففي حين يكون الهدف الرئيس وموضوع الاهتمام الأول هو السلطة السياسية عند النهج الانقلابي، منطلقا من قاعدة أن تغيير السلطة كفيل بحل كافة المشاكل التي يعاني منها المجتمع، كما أشار الكاتب بحق في أكثر من موضع، فإن الهدف الرئيس والاهتمام الأول لدى النهج الديموقراطي يتركزعلى المجتمع منطلقا من قاعدة أن مجتمعا متطورا ومنظما وعقلانيا كفيل بإنتاج سلطة تشبهه، أي هو كفيل بعقلنة السلطة وإخضاعها لمرجعيته ومعاييره ومصالحه. ولرب قائل: وهل تسمح السلطات المستبدة بقيام نهج سياسي ديموقراطي أصلا ؟، لقد أجاب الكاتب عن مايشبه هذا التساؤل بقوله أن السلطة المستبدة لا تسمح لا بالعمل المدني ولا بالعمل السياسي فلماذا استمر العمل السياسي واستمر تشكل الأحزاب بينما تم العزوف عن ممارسة العمل المدني؟ وأحب أن أضيف أن الاشتباك مع الطغيان في مستويات منخفضة أي العمل المدني بشقيه المطلبي النقابي والممارسة السياسية في الحقل الاقتصادي، هو الشكل الوحيد العصي على السلطة المستبدة، أي هو الشكل الوحيد القابل للحياة والمثمر عندما تكون البنية الاجتماعية مستقرة نسبيا، اي في زمن التطور، وأن التضخم السياسي الذي يظهر في الممارسة السياسية لقوى المعارضة في هذه المرحلة إنما هو فراغ سياسي بكل ماتعنيه الكلمة من معنى.

25-10-2021

الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة