ليبيا أمام فرصة جديدة ما تزال غامضة الملامح – موفق نيربية
هنالك غيوم تتجمّع في سماء ليبيا في الفترة الأخيرة، ويبقى الاحتمال قائماً أن تزداد تلبّداً في الأسابيع القليلة المقبلة. وتتخّذ هذه الأزمة من الانتخابات عنواناً لها، وهذه باب على الصراع على السلطة والنفوذ بين الليبيين، تُضاف إلى النفط كنافذة لصراع أكثر اتّساعاً، ويشمل دولاً قريبة وبعيدة عن تلك البلاد.
وكان قد ابتدأ أول تمرين على الصراع الانتخابي تحت إشراف ستيفاني الشهيرة، التي حملت تفويضاً باسم الأمم المتحدة كنائبة لممثلها في ليبيا، والتي قادت عملية سياسية عاصفة، كما تعصف الصراعات العسكرية على الأرض، حتى انعقد اجتماع جنيف الذي حمل اسم» ملتقى الحوار السياسي الليبي» وانتخب مجلساً رئاسياً ثلاثياً، بعدد الأقاليم الليبية، ورئيساً للحكومة العتيدة الموحدة. وتمّ ذلك بعد فشل أوّلي في جولة حوار سبقت تلك في تونس، ولكنّها ساعدت على تلمّس بعض أسباب تعويق الحل والتسوية.
كان المصدر الأول لقوة ملتقى جنيف، في شموليته النسبية، والمصدر الثاني في دعم الأمم المتحدة وتوافق الدول صاحبة الأسهم في الأزمة أو على الأرض، بإيمان رسمي يخفي بعض نفاق ينتظر دوره. أمّا المصدر الثالث الأكثر أهمية عمليا، فكان في تحقيق وقف لإطلاق النار في أكتوبر 2020، صمد وأحرج كلّ القوى للالتزام به، ومن ثمّ لدعم الحوار السياسي، طمعاً بأن يكون ذلك فرصة لتعزيز الميول العسكرية بسلطة سياسياً شرعية. كانت اللجنة التي اشتهرت باسم (5+5) من نتائج ذلك الاتفاق، وقد حققت مكاسب مهمة، توافق وراءها طرفاها لاتّقاء شر تسليم الزمام للسياسيين من جهة، ولتبييض تاريخ الصراع من جهة أخرى، بسلوك طريق النية الحسنة وتقديم مصلحة الوطن. عربياً أيضاً كان هنالك صراع محتدم، على عناوين متنوعة، بعضها معلن، وبعضها الآخر مُغفل تجري تغطيته، منها الموقف من الإخوان المسلمين وتداخلهم في سلطات الغرب الليبي، والموقف من الربيع العربي عموماً، الذي يتمظهر في تقديم» العسكر» ودعمهم كمنقذ وحيد ممكن. كانت تدفقات الداعمين تصل إلى الأطراف المتناحرة من دون توقف. وبسبب من تراجع شعبية الربيع العربي وعملية التغيير- والإخوان المسلمين – لدى معظم الحكام العرب، كان الباب مفتوحاً لتركيا لتحسين مكانتها في المتوسط، فزادت من دعم قوى الأمر الواقع في الغرب وطرابلس، حتى ابتدأت أيضاً بتوريد المقاتلين السوريين، الذين أصبحوا نهباً للحاجة والعوز بعد خفوت قعقعة السلاح في سوريا. أصبح اسم» المرتزقة السوريين» علماً على هؤلاء، وانفتح الباب لمرتزقة آخرين، ولاقتناص» أسهم» إضافية من قبل روسيا فلاديمير بوتين، بتوريد» مرتزقة فاغنر» لدعم قوى الشرق وجيش حفتر الوطني. كلاهما يريدان أي فرصة لتكريس وجودهما ومصالحهما شرق المتوسط، بوجود ومصالح غربه أيضاً. هنا التقت أيضاً الأزمة السورية المفتوحة مع الأزمة الليبية الواعدة. ولم يكن اللقاء إلّا ثمرة لتكرار» مجزرة سجن تدمر 1980» في» مجزرة سجن أبو سليم 1996» اللتين قتلت السلطة فيهما عدداً متقارباً من السجناء، حوالي الألف. ولا نعلم بعد مدى تأثير خطة رفعت الأسد في مجزرة تدمر في خطة القذافي لمجزرة أبو سليم. كذلك لم يأخذ القذافي العبرةَ من الأسد وابنه في ضرورة تعميق القمع بمجازر أخرى أكبر فأكبر، وكان لعقابيل مجزرة «أبو سليم» مسارٌ أسهمَ في ما بعد في تفجير الثورة الليبية التي كانت رائعة وفريدة في زمانها، قبل تطويرها بالنار والدم من الخارج خصوصاً.
في خضمّ عاصفة ترامب وإدارته، اختصمت القوى الأوروبية أيضاً، وتناحر الإيطاليون والفرنسيون، كلّ يستعيد طموحاً موروثاً، يكاد يتصل إلى تاريخ فرسان» الإسبتارية» الذين حكموا طرابلس لفترة من الزمن في القرن السادس عشر. روما تريد البناء على أمجاد روما القديمة؛ كما فعلت في النصف الأول من القرن الماضي؛ وفرنسا تريد رتق نفوذها في المغرب الكبير وغرب افريقيا بموارد ليبيا الكبيرة وموقعها المتوسط في المتوسط. تلك القوى جميعها، من مصر إلى الخليج إلى الأتراك والروس وصولاً إلى الأوروبيين، عادوا للانتظام نسبياً في الصف مع عودة الأمريكيين للقيام ببعض دورهم – رغم نقل اهتماماتهم وحقل استراتيجيتهم إلى الشرق الأقصى مؤخراً. هذا أتاح للحكمة الألمانية الموثوقة أكثر من غيرها أن تؤسس للحلول والتسويات في مؤتمر برلين، المؤسس في يناير 2020 (ومؤتمرها الثاني الأكثر حسماً في يونيو 2021) الذي أصبح معياراً ورائزاً للمواقف والاتّجاهات لاحقا، والذي بنت عليه الولايات المتحدة دعمها للعملية السياسية الليبية. فتلقى مسار ملتقى الحوار دفعاً جديداً، واكتسب دور الأمم المتحدة بعض قوة ملموسة لاحقاً. وكان أن خفتت صيحات الحرب ورقصاتها بين الأطراف الخارجية، وبالطبع الداخلية من بعدها. ذلك كلّه على طريق معركة عملية أخرى: الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، التي يحتدم الصراع عليهما وحولهما الآن. ويتزايد عدد المرشحين للمنصب الرئاسي بشكل متصاعد مع اقتراب انتهاء تقديم الطلبات، ليقارب خمس دزينات في لحظة كتابة هذه الكلمات. إلّا أن خريطة أبرز المرشّحين أصبحت واضحة، قبل أن تشدّ مفوضية الانتخابات من عزيمتها وتعلن المقبولين والمرفوضين بينهم.
سوف يكون التحدي الأوّل هو التعامل مع ترشيح سيف الإسلام القذافي، المطلوب دولياً لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. والتعامل مع الغضب القبلي من جهة، وغضب أنصار العودة إلى النظام القديم، ولو متنكّراً، بين الأنظمة وفي سراديبها، والمستفيدين من سلطانها وفسادها، من جهة أخرى. وربّما يستمرّ أيضاً هذا الموقف السلبي ليشمل محاولة إضعاف فرص عبد الحميد الدبيبة، لمخالفته قانون الانتخابات، من حيث الالتزام بترك الوظيفة الرسمية قبل الترشّح بمدة معينة، على الرغم من الدعم الإسلامي والتركي الذي يأمن إليه الرجل. وربّما كذلك الاعتراض على ترشيح خليفة حفتر نفسه، المدعوم إقليمياً – كما يقال- من الحدود القريبة وحتى آخر الخليج. قيام عقيلة صالح بالترشّح يغطي احتمال استبعاد حفتر لو حصل. كما أن ترشيح فتحي باشاغا يغطي احتمال استبعاد الدبيبة من الانتخابات. يبدو أن هذه الانتخابات سوف تكون باباً مزدوجاً إلى المستقبل، يحمل تناقضاً داخلياً: يفضي إلى المزيد من الانقسامات القبلية والمناطقية والسياسية، وإلى محاولة لإعادة توحيد البلاد، في إطار تنظيمي يتراوح ما بين سلطة قاهرة، أو عملية تنمية ديمقراطية.
يستدعي ترشيح سيف الإسلام ذاكرة مجيدة ومريرة، يريد عديدون دفنها لو استطاعوا. فهو» وليّ عهد» كان مجمّداً لسنواتٍ بانتظار فرصته، يتمنى ولاة عهد آخرين من نوع بشار الأسد على سبيل المثال أن يعود إلى الأضواء بشكل يوقف كلّ الاعتراضات على شرعيته، ويسدّ أفواه الذين خرجوا إلى الشوارع خلال العام 2011، وحاولوا خرق جدار الاستبداد الشرقي المستدام، من أجل دولة حديثة وديمقراطية تنتمي إلى العالم المعاصر. كذلك يحاول الفساد العربي السابق أن يستعيد هيمنته وهيبته من خلال المسرح الليبي، بتقديم رموز لذلك الفساد «الوطني» الذي كان من بين هوامش النظام الآفل، وارتدى بسرعة قناعاً آخر بعد ذلك.. يستطيع أن يكون إسلامياً وعلمانياً في الوقت ذاته، على سبيل المثال، نصيراً للدولة واحتكارها للعنف وأدواته، ولتوحيد الجيش وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، ومبشّراً بتنمية واسعة النطاق؛ في الوقت ذاته الذي يستثمر فيه في القبيلة والعشيرة والسلاح المنفلت، أو تراث الأجهزة الأمنية. ذلك سيكون عندئذٍ طريقاً «ديمقراطياً» لاستبداد وفساد متجدّدين يصفق الجميع لهما بعد أن تعبوا من الأزمة الطويلة وتجليّاتها. لست متشائماً رغم ذلك، ونحن مضطرون للتعلّق بحبالٍ لا نراها!
القدس العربي – ٢٣-١١-٢٠٢١
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع.