الحروب الأبدية واستراتيجية إخفاء الكرة هنا وهناك – موفق نيربية
يقول باحث أمريكي إن الرئيس بايدن يلعب لعبة إخفاء الكرة مع «الحروب الأبدية» الأمريكية. في تصريحاته العامة، يصور إدارته على أنها تعمل بجد على التراجع عن العديد من المغامرات العسكرية الأمريكية، التي حدثت بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر. وقد ألقى عددا من الخطب معلنا منذ أيار/مايو الماضي انتهاء الحرب الأمريكية في أفغانستان، وتحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية بحلول سبتمبر، مع الذكرى الحادية والعشرين للحدث المشؤوم.
وكانت الإدارة في نيسان/إبريل الذي سبق، قد توصّلت كذلك إلى اتفاق ضمني مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لإنهاء المهمة القتالية الأمريكية، رسميا في العراق. في ذلك الوقت، قال أحد كبار المسؤولين في إدارة بايدن: «لن تكون هناك قوات عسكرية أمريكية في دور قتالي في العراق بحلول نهاية العام». وقد حدث هذا وذاك بالفعل، مع أن تجربة أفغانستان حملت معها أحمالاً إضافية من اللوم والانتقاد.
يعود هذا المصطلح» إخفاء الكرة» إلى كرة القدم الأمريكية، عندما يخفي لاعب الوسط، أو أي لاعب آخر الكرة، حتى لا يعرف الفريق الآخر مكانها، فيتمكن الفريق الذي أخفاها من تسجيل هدف بسهولة. هو مصطلح أمريكي محض، يُستعمل خصوصاً من قبل المحامين أو المدعين العامّين، للدلالة على عملية حجب الأدلة، التي ستؤدي إلى خسارتهم قضاياهم. طبيعي أن الكاتب يقصد أن بايدن وإدارته لن يتوقفوا عن استخدام تلك النزاعات في سياستهم الخارجية، لفرض مخرجات تعود لصالح الهيمنة الأمريكية، ربّما سوف يخدعون المراقبين وجمهور الناخبين، حتى أنهم سيقومون بانسحابات عملية مهمة، يستبدلونها بأشكال أخرى من ممارسة الحرب، الانتخابات هي كلمة السر غالباً. هناك حروب دائمة أو مستدامة أخرى في سوريا واليمن وليبيا.. وفلسطين. لم يأت أحد على سيرتها، اللهم ما خلا سوريا، التي لا تجلب الكثير من الانتباه، مع حجم القوة الأمريكية الموظفة وطبيعة اختصاصاتها خارج المواجهة والخطر. في اليمن هناك تدخل في عمليات التسليح والتذخير والخدمات اللوجستية أو الإلكترونية. ولن تتوقف العمليات المعتمدة على الطائرات من دون طيار، أو الصواريخ أو القصف من السفن أو من الأجواء، وهذا ليس بقليل، رغم ذلك يمكن أن تجري بعض التعديلات خارج أزمنة الانتخابات أو منافساتها غير المحسومة.
وفي الحقيقة لدينا نحن حروبنا الدائمة والمستدامة، الأبدية أو اللانهائية، المستمرة أبداً، هي بذاتها انعكاسات لحروبهم، أو تجليات لعجزنا وخمودنا. هي حروب تستند النخب الحاكمة بعمق إلى ديمومتها واستثمارها جيداً. ربّما آن الأوان لإعادة النظر فيها، ومحاولة وعي أسباب ركود الزمن، لأننا بالحرص على الثوابت الثورية كما كان يهدف ماركس وأنجلز في شبابهما، وكما عبّر عن ذلك ليون تروتسكي في نظريته عن الثورة المستمرة، قد يضيع علينا احتمال تملّك حيّزٍ من المستقبل، بالتركيز على احتلال حيّز من الماضي، كثيراً ما تقوم نخبنا بإخفاء الكرة، لحفظ المصالح وهذا مشروع، أو لتغليب الرأي، وهذا غير مشروع؛ وفي الحالتين هناك خطأ ما، ينتج عنه دوران في المكان، أو عودة إلى وراء، أو اختلاط لا مخرج منه. تخفي الأنظمة الديمقراطية كراتها، حين توقف حروبها الأبدية، وتخفيها أنظمتنا على اختلافاتها حتى نستديم حروبا الخاصة.
بايدن وإدارته لن يتوقفوا عن استخدام النزاعات في سياستهم الخارجية، لفرض مخرجات تعود لصالح الهيمنة الأمريكية
أول تلك» النزاعات» المحلية وأكثرها ديمومةً، ابتدأ بالسؤال المأثور عن «كيف تقدّم الغرب وتخلّفنا» ثمّ انحرف إلى صراع بين المنادين بالأصالة والمنادين بالحداثة، وإلى نزاع بين العروبة والإسلام، والرابطة القومية والجامعة الإسلامية، والديمقراطية والاستبداد» العادل» والحفاظ على الهوية في وجه زوالها أو زوال ألوانها الفاقعة، مع الاستسلام المزعوم للاستشراق والاستعمار والحداثة وقيم الغرب الغريبة، إلخ.
في دولة ديمقراطية، يحرّض الانتصارُ في الحرب طموحَ الجنرالات إلى القبض على السلطة بأنفسهم – كما فعل قيصر وسولا في الجمهورية الرومانية – أو تدعيمَ تمركز السلطات في يد الحكومة على حساب المجتمع المدني. وفي دول الاستبداد، يحرص المستبدّون على استدامة حالة الحرب، تحصيناً لسيطرتهم المطلقة من «الطامعين». فدوام الحروب في شرقنا أكثر مما في غربهم بكثير، وأضرارها أعمّ وأكبر. يحدث مع صراع متجذّر، يكمن لأجيال ثم يثور لأجيال، أن يتحوّل أحياناً وفي العصر الحديث خصوصاً، إلى انتحار اجتماعي – سياسي، كما هو الحال في الصراع السنّي – الشيعي. وقد شاخ هذا الأخير خمسة عشر قرناً، وما زال يدرج في الأرض وكأنه في شرخ الشباب، أو من مواليد القرن العشرين. وهو يجد مساحة لحركته الموّارة، تشمل إيران وشرقها والعرب وغربهم، وفي العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان. في سوريا، كان الوضع مريحاً لعقود طويلة، في عصر الحرب الباردة خصوصاً، حيث انتعش الاستبداد في المنطقة، وتفشّت الأوتوقراطيات المختلفة، الوراثية من حيث التصميم الأساسي، أو الوراثية الناشئة، على حساب الليبراليات الكولونيالية المطبوخة على عجل. وكما اعتمد القذافي على القبلية في سياق توريث عائلته، اعتمد الأسد الأب على الطائفية لتنفيذ مخططه… وحين انكشف الصراع على مصراعيه مع الشعب السوري، انكشفت أيضاً طائفية النظام أولاً، ثم انفتحت على قرابة غير شرعية واحتماء بآليات الصراع السني الشيعي بدائرته الأوسع، ليستقرّ في حضن إيران، حبّاً أو كرهاً لا فرق. هذا الصراع له طرفان، يتحمّل كلّ منهما حصته من الأوزار، حين يستعين بالأسلحة غير المشروعة في حربه.
على الأرض أيضاً نزاع طويل الأمد، ورثناه من الحربين الكونيتين، هو ذلك الفلسطيني- الإسرائيلي، أو العربي – الإسرائيلي. بعد تينك الحربين، قامت عدة حروب في المنطقة على إرث هذا النزاع، وعلى عجز العالم عن تقديم حلّ عادل له، مع ثقل الشعور بالذنب، الذي يغذي نفسه بنفسه. اعتمد الغرب على الاستمرار في دعم إسرائيل لأسبابه الخاصة إذن، وفي دعم الاستبداد المستشري في المنطقة لاستدامة التفوق الإسرائيلي، إضافة إلى ضمان استمرار تدفق النفط وغير ذلك.
بذلك عاشت لدينا القضية الفلسطينية قضية مركزية، فوق قضايا التقدّم والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والحداثة عموماً، تحجبها عن عيون الناس، أو تحرّم البحث فيها. كانت قضية مركزية تحتمي بمظلومية مشروعة لملايين الفلسطينيين، يستديمها الطغاة أداة إخراسٍ وتجويع وسلب وصلب. لم يكن كافياً أن تكون قضية أساسية على سبيل المثال، أو قضية لا نتخلّى عن حقوقنا فيها، بل كان يجب أن تكون» مركزية» لمنع تظهير القضايا الأخرى، ولا يعلو صوت على صوت المعركة…
منذ أواخر القرن العشرين، تم استخدام مفاهيم الحرب الأبدية أو الدائمة أو المستمرة على ألسنة الساسة، وفي كتابات المراقبين، لانتقاد تدخلات القوات المسلحة الأمريكية في الدول الأجنبية، واستراتيجيات المجمع العسكري الصناعي؛ أو لوصف الحروب مع أعداء غامضين: مثل الحرب على الإرهاب أو الحرب على المخدرات.. لا يتعارض هذا الرأي مع استحضار الخصومة الأصيلة مع التأخّر بكل أبوابه والاستبداد بكلّ أنواعه، ولا مع أهمّية الوقوف في وجه الطموحات الإيرانية الجارفة، التي تتغذّى على الصراع السني – الشيعي، أو الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، والتضامن مع الكفاح الفلسطيني.. هي مجرّد دعوة للتفكير بشكلٍ «ثوري» على امتداد تلك الصراعات الدائمة، أو أخذ ذلك بالاعتبار على الأقل، الحروب الدائمة، حتى حين تخمد أو تكمن، تضعف إمكانيات مواجهة الأخطار الداهمة كما يحدث مع الجائحة الراهنة؛ ولا تكون عملية إنهائها مرتجلة أو عصبية أو حتى» انتخابية» أبداً.
كلّهم يخفون الكرة، وليس بايدن وحده من يفعل ذلك.
القدس العربي – ٥-١-٢٠٢٢
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع