بمناسبة معركة سجن الحسكة عن مفهوم النكاية- موفق نيربية
تخافتت أصوات المعارك في مدينة الحسكة، من دون أن تختفي بعد، أو تتخافت أصداؤها هنا وهناك. وتناول تلك الأصداء بالتقييم لا ينتظر طويلاً، لأن آثاره سوف تزيد من الأذى الحاصل من قبل، في البنية السورية وفي هشاشتها أمام التحولات الطارئة بسبب صراعات الآخرين، العمياء أحياناً. فقد اندلعت معركة حامية بهجوم قوات تنظيم الدولة «داعش» على ما يُسمى بسجن الصناعة هناك، الذي يحوي عدداً كبيراً من سجناء ذلك التنظيم الجهنمي منذ انتهاء المعارك الطاحنة بينه وبين التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى، بانتهاء معركة الباغوز.
قامت تلك القوات (قسد) أساساً على نواة أكثر صلابة من مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردي وأقرب حلفائه قبل أن تتوسع بالعديد من المقاتلين العرب والسريان، من دون المس بنفوذ الكرد الرئيس فيها، وقيادتها عملياً. وفي عيون البعض من عرب المنطقة وخارجها، لم يكن ما حدث انتصاراً للكرد على «داعش» وحدها، بل على العرب/السنة من خلال هيمنة صلبة تمددت بعيداً، خارج المناطق الكردية أو المختلف على نسبة تركيبها الإثنية.
قد يتجسد ذلك احتضاناً لـ»داعش» في بعض الحالات، أو تعاطفاً يعصف في وجه الكرد، يجرف في طريقه مسألة الإرهاب وخطره، ويرفض الاعتراف بها، ليرى فيها استهدافاً للعرب عموماً، أو للسنة العرب. وذلك ليس فعلاً وحيد الاتجاه، بل كان له ما يزيد من أواره من عصبية كردية مقابلة تزهو بالنصر والسلاح وقوة الحليف.
جاء العديد من التقارير الإعلامية والبيانات ومنشورات التواصل الاجتماعي، يركز على الجانب الكردي من الموضوع ويهمل الصراع الرئيس، بحجة أن أمامنا خطرين متعادلين، وإرهابين لا يقل أحدهما عن الآخر، يدفع به بقوة إصرار الحكومة التركية على إبراز الخطر الكردي ممثلاً بحزب العمال بطريقة تبدو وكأنها تهمش قليلاً من خطر «داعش» وأخواتها، وهي تساوي بينهما. كأن الهجوم على سجن الحسكة – المكتظ بمقاتلي «داعش» الأسرى هجوم كردي على الأمة العربية/التركية/السنية؛ وكأن دور التحالف الدولي هنا مجرد برهان على المؤامرة الكونية أيضاً!
في بعض جوانب العمل السياسي، يبدو الحديث السائد في أن «الأقربين أولى بالمعروف» مخطئاً، يخلي المكان لآخر يؤكد أنهم أولى بالشر والنكاية والإغاظة. ولطالما انقسمت قوى وتنظيمات سياسية، ليصبح ترصد إحداها للأخرى أساس حياتها السياسية وخبزها اليومي، بدلاً من الاهتمام أكثر بالخصم السياسي المقابل كما تقتضي البداهة والحس السليم، إضافة إلى المصلحة السياسية.
أذكر جيداً كيف كنا طلاباً جامعيين قادمين من طرفين في حزب واحد ينقسم بتسارع في مطلع السبعينيات في دمشق، وقد أصبح التفوق في الانتخابات على مرشح الجانب الآخر سابقاً على أهمية النجاح أو هزيمة الخصم بالمعنى السياسي الفعلي. كما تعايشنا كثيراً مع انقسامات المقاومة الفلسطينية وتنظيماتها أيضاً، وشهدنا كيف يتم – فعلياً أيضاً – نسيان اليسار واليمين، والراديكالي والرخو، أمام شقيق قد انشق حديثاً. حدث هذا مثلاً في انشقاقات الجبهة الشعبية المتكررة، على سبيل المثال. يُسجل هنا أن تلك الظاهرة كانت أكثر بروزاً في اليسار منها في اليمين. كانت تلك الظاهرة مصدر استدامة للضعف في حقل الاستراتيجية، فهماً وإدراكاً وبحثاً وممارسة. يتضاءل بوجودها الهدف الأهم والأكبر والرئيس، من أجل التركيز على الهدف المباشر، اليومي والعابر. وتلك مدرسة ربما ورثناها من قراءاتنا الساذجة في إرث لينين والحركة الثورية الروسية التي كانت نبع المعرفة والثقافة الفكرية – السياسية لدى كثيرين من جيلنا.
هي أيضاً ظاهرة بدائية، نتاج تأخر وفوات، وأعراض لحالة نفسية – عصبية لا تعود إلى العلم والقيم والمبادئ، بمقدار ما إلى حالة التناحر والتدافع على الصيد والغنيمة مع الأقربين إلينا. وربما كانت موروثة من أزمنة التوحش والبدائية، إذ تبدو أكثر تأصلاً من الجديد الناشئ عن العلم والمعرفة والمنطق وعلم الاجتماع والقانون… والحداثة. يمكن لذلك أيضاً أن يكون مدخلاً عريضاً إلى الانتهازية والدجل، لتحقيق الغلبة على أولئك الأقربين. يأتي من ثم التلفيق وهجر الصدق بعيون مفتوحة عن آخرها. ويمكن الجزم أن من يحبك تلك «الحقائق» يصدقها غالباً، ويقاتل بإيمانٍ عميق من يسعى إلى إثبات خطلها وضررها.
هنالك فاعلية كبيرة للنكاية في القصص الشعبي، وعلى ما يبدو في ممارستنا للسياسة. ذلك ما يرد على الذهن حين يرى المرء كيف يقوم بعض السوريين بالتمثيل ببعضهم الآخر، في كل حقل وميدان. ولم يصل بهم الأمر إلى ذلك المقدار إلا بعد استفحال ظاهرة الإسلاموية القصوى، المتطرفة – العنيفة – الانعزالية. هنا تداخَل «الثأر» مع»النكاية»… فكان أن رجع ذلك بالبلاد إلى الصحراء، وبأهلها إلى البداوة الأولى – الجاهلية؟ – بعد أن كانت مدناً- ممالك مدنية تملأ النظر والسمع.
وأوغل الجهاديون المعاصرون – وما هم بمعاصرين – في البحث بأشكال الجهاد وأنواعه، وفصل العديد منهم في «جهاد النكاية» و»إدارة التوحش» و»جهاد التمكين». فكان الأول هو مرحلة ممارسة الإرهاب وإغاظة العدو بالعمليات المنفردة الانتحارية أو الانغماسية أو التفجيرات، وهي تكون صغيرة قد تكبر حتى حجم «غزوة نيويورك» مثلاً. وعندما يؤدي جهاد النكاية إلى إضعاف السلطة في جغرافيا معينة تسود فيها الفوضى، تغدو «إدارة التوحش» ضرورية، مع ضرورة التمهيد للنصر اللاحق بخلق مواقع سلطة مستقرة ذات قواعد وفقه وقضاة. وذلك كله باتجاه» التمكين» وتأسيس الحكومة الشرعية، خلافةً كانت أم أمارة أم ولايات في المرحلة الأخيرة هذه يحتاج الأمر إلى شكل قتال وتسليح مختلف، وتمهيد كالذي تم تأمينه من خلال» فتح» الموصل سابقاً.
في ذلك عودة إلى الطبيعة تذكر بهوبس ورفاقه من بعده، وعودة بعلم الاجتماع إلى ما قبل ابن خلدون بزمن طويل، وبعلم النفس إلى أيام جداتنا. نبحث عما يساعد في وعي الظاهرة عموماً، وحين تتجسد نكايات تتوالد في حقل السياسة السوري، تتكاثر في زمن جهاد النكاية والتوحش والتمكين والمغاور المنعزلة، والذكورية القصوى إذ تستحيل إرهاباً لا حدود لدمويته.
في الحروب عموماً، والحروب التي تفسخت عواملها وأطرافها مع طولها خصوصاً، يصبح الممنوع والمكروه في الأحوال العادية نافلاً ومزعجاً، في حين تزداد شعبية الإقدام على أفعال وأقوال غريبة. تغدو أي دعوة للحوار والمكاشفة تخليصاً للخصم من أسلحته. تلك الأسلحة تكون آنذاك قد أصبحت طرفاً حليفاً أو داعماً أو ممولاً أو حتى مستثمراً أو موظفاً، أو مجرد عصبية فائتة كان ينبغي إطراحها أساساً. هنالك الكثير مما يمكن وينبغي أن يقال في نقد «قسد» و»مسد» وخصوصاً «الإدارة الذاتية» من دون هوادة، فيما ينعكس أخطاء على الأرض تزرع السلبية والرفض والتعارض ورد الفعل، لكن ذلك لا يستدعي ما يظهر وكأنه «إيديولوجيا النكاية» وقد تجسدت خطراً إضافياً على الأخطار المحدقة بمصير سوريا ذاتها. ومن كل الأخطار، احتلالات وتمزقاً وارتهانات وتشتتاً، يبقى الخطر الأكبر أن تغدو تلك البلاد مجرد دملة على الكوكب، يملؤها قيح «داعش» وأشكال قوى الإرهاب المتنوعة. تجليات تلك الإيديولوجيا لدى العرب السنة في الجزيرة السورية تختلف شدتها وألوانها بين المراكز والأطراف في جميع معانيها، الاجتماعية والجغرافية والثقافية. تزدهر أكثر بقليل في بعض الأوساط الطبيعية والفطرية، التي تستطيع بذاتها أن تكون أكثر تقدماً ورفضاً من غيرها، لكل أشكال التطرف، حين تغيب أو تضعف موجبات النكاية ومحرضاتها.
مع ملاحظة محلية أخرى، في أن معركة السجن ربما أنهت احتمال «التمكين» وعودة «دولة الخلافة» بعد هزيمة «داعش» المفترضة، بخاصة بعد قتل زعيمها قرداش حيث كان مختبئاً؛ وملاحظة دولية في أن ذلك الخطر – مع تركيزه على سوريا والسوريين – يمثل خطراً على العالم أيضا، وليست أخطار الحرب في أوكرانيا، أو أزمة إمدادات الغاز، بشيء أمامه. وتلك حقيقة أيضاً، لا تعني إدارة بايدن وحدها، بل تعنينا نحن السوريين أولاً!
أضاف الجنرال مظلوم عبدي قائد» قسد» مؤخراً مهمة جديدة لا يمكن إنجازها من دون الحل السياسي الشامل في سوريا – مثل إعادة الإعمار وعودة اللاجئين والانتخابات العامة – هي هزيمة «داعش» النهائية.
القدس العربي – 15 – فبراير/شباط – 2022
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع