منعطف ألماني على المنعطف الأوكراني – موفق نيربية
سوف يتردّد صدى الحرب الأوكرانية وآثارها لسنوات طويلة، لكنّ هنالك منعطفاً آخر يبدو وكأنه نشأ عنه بشكل مفاجئ، ربّما ستكون له انعكاساته الأكبر، بذاته وبأثاره بعيدة المدى أيضاً، هو التغيير الذي طرأ بشكل غير متوقّع عموماً في السياسة الألمانية الدفاعية والخارجية، وهو فريد من نوعه منذ الحرب الكونية الأخيرة.
بعد تلك الحرب، سادت السياسة الألمانية نزعة سلمية أصبحت تقليداً راسخاً، بدافع من مستوى العنف الذي مارسته آنذاك وما نجم عنه دولياً ومحليّاً. وقد قاومت حكومة المستشار الجديد شولتس بقوة في البداية كل الضغوطات الأمريكية والبولونية والأوكرانية لزحزحة تلك السياسة، أو حتى لتغيير الموقف الرافض لوقف مشروع السيل الشمالي- 2، من دون نتيجة. حتى جاء الوقت الذي بلغ فيه السيل الأوكراني مدىً يفوق ما حلمت به دوائر الكرملين، وألقى المستشار خطاباً تاريخياً أمام البوندستاغ، أعلن فيه تخلّي ألمانيا عن عشرات السنين من القيود على علامتها التجارية التي تمنع إسهام صناعتها العسكرية في الأعمال العسكرية، ورفع المساهمة الألمانية في الدعم العسكري للأوكرانيين. وكان الأهمَّ إعلانُ تخصيص مئة مليار يورو لدعم قدرات الجيش الألماني وتحديثه، والتعهد برفع نسبة الميزانيات العسكرية إلى 2%، كالشركاء الآخرين في الناتو.
للأوروبيين على الأقل، كان هذا تحوّلاً مذهلاً، وكان يمكن في ظروف أخرى أن يكون كابوساً، وترتّب على ذلك أن يقوم الاتحاد الأوروبي مؤخراً بإصدار وثيقة حول تعديل سياسته الدفاعية والعسكرية بشكل نوعي، في الأسبوع الماضي.. إلّا أن السياسة الخارجية الألمانية في الواقع كانت تحضّر من قبل الحدث الأوكراني مقوّماتِ تغيير مهم، ابتدأت مقدّماته مسبقاً، وقبل تشكيل حكومة ائتلاف إشارة المرور( أحمر- أصفر- أخضر) الجديدة. ظهر ذلك في تقرير مفصلي كبير في الخريف الماضي. ونظّمه معهد العلاقات الدولية والأمن في برلين، أحد أهم مراكز صناعة القرار، الذي كان على رأسه حتى عامين سابقين الشخصية الاستراتيجية الذي نعرفه عربياً وسورياً منذ زمن – ويعرفه السودانيون جيداً حالياً بصفته ممثل الأمين العام للأمم المتحدة هناك وهو، البروفيسور فولكر بيرتس؛ ثم خلفه أكاديمي واستراتيجي بارز آخر هو نيكولاس فون بومهارت. ينطلق ذلك التقرير من رؤية واقع النظام الدولي الراهن، ليرسم مخططاً جديداً له يراعي الإئتلافات الجديدة، ولألمانيا دور أكبر فيه أيضاً. يجدّد فيه وعي التحولات في القوة الدولية، وفقدان نفوذ القوى الغربية، ونماذج الاستبداد المتزايدة، وضعف المؤسسات المتعددة الأطراف، والمشاكل العالمية الملحة مثل تغير المناخ ـ كلّها تحديات تتطلب إعادة تنظيم السياسة الخارجية الألمانية. وعند القيام بذلك، من المهم إجراء تقييم مناسب وموضوعي لحدود قدراتها، وكذلك المساحة الحالية للمناورة، وهذا كلّه يجب أن يوجه ويحدّد أهدافها وأولوياتها. وبناءً على ذلك، لا بدّ من أن تسترشد العلاقات الخارجية الألمانية بشراكات موثوقة وأشكال جديدة لتقاسم المسؤولية في مختلف المجالات، إضافة بالطبع لاعتماد الحوار كأساس للتفاوض على الأهداف المتضاربة. يتم تنظيم وتبويب المساهمات في التقرير المذكور- وهي كبيرة ومتعددة وتشكل جهداً جماعياً لافتاً- على أساس أربعة مجالات من التغيير، التي تحدد إجراءات السياسة الخارجية، وفي الوقت نفسه تقدم نقاط انطلاق لتحديد المسار في المستقبل.
أولها التكيف، حيث هنالك ظروف جديدة في السياسة الخارجية، كان هنالك تقليل من شأنها، يتعلق هذا بصعود الصين، وكذلك الطموحات الجيوسياسية للدول الأخرى للسيطرة على الموارد الاستراتيجية.
وثانيها ذلك التغيير المرتبط بالهوية، بالربط بين التغيير في الصورة الذاتية الوطنية، وتأثير المصالح السياسية المحلية، من جهة؛ وذاك التغيير في مفاهيم أدوار السياسة الخارجية في الزمن الراهن؛ هنالك إعادة تموضع للدولة في السياسة الدولية، مختلف عن الظروف السائدة السابقة.
وثالثها التغيير التكويني، التركيبي دولياً، فهنالك اهتمام طارئ بالوجود على المسرح الدولي، وسعي يستبق الفرص لممارسة التأثير، ورغبة في اكتساب مكانة أو تجنب فقدانها – يمكن أن تلهم هذه العوامل مشاركة أكثر نشاطًا في تشكيل السياسة الدولية، كما في حالتي كوريا الجنوبية وتركيا- مثلاً- وطموحاتهما الإقليمية والعالمية.
وأخيراً هنالك التغيير المرتبط بالشريك، لأن نطاق وتأثير تغيير السياسة الخارجية سيكون مرهوناً بشدة باختيار الشركاء ومجموعات الدعم. وهذا يمكن أن يبدأ بتعميق عمليات التقارب في السلوك الرسمي دولياً. وعلى سبيل المثال، إذا كانت الصين تظهر لألمانيا في وقت واحد كشريك ومنافس وخصم، فسوف تشكل الائتلافات المشتركة تعبيراً معيارياً وعملياً للمصالح وترتيب التفضيلات في ممارسة السياسة الخارجية.
تحمل الشراكات الضرورية للسياسة الخارجية الألمانية معها فرصاً، لكنها تحمل معها أيضا تَبِعات، لذلك، فإن إدارة التوقعات الشاملة، داخليا وخارجيا، أمر ضروري، وله أهمية مركزية، لاسيما في حلف الناتو، وكذلك في السياق الأوروبي. يجب ألا يؤدي التوجه – مثلاً- نحو الشراكة الفرنسية الألمانية المهمة إلى الشعور بالإقصاء بين أعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرين، بذلك، لن يكون «الجوار» مفهوما إقليميا بعد الآن؛ «وتحتاج ألمانيا إلى جيران «عالميين» في مناطق مختلفة من العالم، إذا أرادت أن تساهم في حل مشاكل المستقبل، حيث لن يقتصر الأمر على تحقيق ترتيبات لتقاسم الأعباء فحسب، بل سوف يكون من الأهمية بمكان أيضا تطوير مجموعة جديدة من الأدوات لتقاسم المسؤولية وتشكيل المستقبل معا.
في هذا السيناريو لا يعود النظام الدولي مستنداً إلى «باكسا أمريكانا». إذ يبتعد هذا الأخير ليفسح المجال لنظام متعدد الأقطاب يكون في نواته ثنائي القطب من الخصمين الأكبر الولايات المتحدة والصين. هذان الاثنان – مع الاتحاد الأوروبي والهند واليابان وروسيا – سيشكلان الاتحاد الجديد، الأوركسترا الناظمة لحركة العالم، نسبياً. فهذه القوى الست تمثّل حوالي 70% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي والإنفاق العسكري، و65% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. في نموذج الاتّحاد هذا، التزام بالمحافظة على تعاون وثيق ومرن بغرض ضمان الاستقرار من حيث الوضع الإقليمي الراهن الطارئ هنا وهناك. يتجنّب «الستة» بشكل متبادل التدخل في الشؤون الداخلية. ويرى الاتحاد في نفسه مركز التحكم في السياسة الدولية، وهو يتفوق بقدراته العملية على الأمم المتحدة، ومجموعات مثل السبعة الكبار. تلك السلطة والشرعية مستمدة من قدرة الدول الست على إيجاد إجابات وحلول مشتركة للتحديات العالمية. وتشمل هذه انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتهديد الشبكات الإرهابية، والمخاوف بشأن الصحة العالمية، وتأثيرات تغير المناخ. كبار الدبلوماسيين يقومون بالعمل الأساسي؛ ولديهم مقر حصين، ممكن في جنيف أو سنغافورة، حيث تكون السكرتارية. ويهدف الاتصال الوثيق بينهم إلى التوافق، وإلى منع أحد الأعضاء من مفاجأة الآخرين بأفعال منفردة. ومع ذلك، عندما لا يمكن التوصل إلى اتفاق، فحتى مجموع القوى تلك، سوف يظل عاجزاً، ويمكن لأعضائها أن يتصرفوا بشكل أحادي إذا رأوا أن مصالحهم الوطنية الحيوية تتعرض للتهديد، ولا يُطرد العضو إلا إذا انتهك بشكل متكرر مصالح طرف آخر بطريقة عدوانية.
بالطبع، سيطرأ تغيير مهم على السيناريوهات والوقائع بعد العنف الذي شهدته أوكرانيا، ولم ينته بعد. فقد طوّر هذا الحدث الوحشي ظروفاً جديدة سيكون لها نتائجها على الموقف من روسيا ومستقبل العلاقة معها، وربّما على مركزها الذي أراد بوتين تطويره، ليرجع إلى مستوى أيام الحرب الباردة، حين كان يوجد عالم برأسين. ذلك المركز المتميّز آنذاك بقدرات عسكرية متميّزة واقتصاد لا بأس به ونفوذ دولي كبير، لم يعد ممكناً مع اقتصاد يقع في المركز الثاني عشر دولياً، وقوة عسكرية أثبتت المقاومة الأوكرانية تخلّفها حتى الآن، مع توفّر قدرات نووية لا تنفع إلا في حالة الانتحار.
قال زيلينسكي في الأسبوع الماضي، إن الصواريخ تنزل على أوكرانيا وقد كُتب عليها «إلى برلين» ليثير الهلع فيها فتسارع إلى تلبية طلباته ودعمه أوروبياً، بدلاً من الخضوع لضغط الغاز الروسي. وهو يدرك دور ألمانيا المحوري في أوروبا، وفي مستقبلها ومستقبل أوكرانيا أيضاً؛ كما أن انقلاب الاستراتيجية الدفاعية والخارجية في ألمانيا قد أحيا آماله وأنعشها.. لكن التغيّر والتغيير الألمانيين يحملان معاني أكبر وأكثر اتسّاعاً، حتى من نكبة بوتين المتوقعة في أوكرانيا. وغالباً، كانت الصين بدورها كذلك بانتظار نتائج المغامرة الروسية، لتبدأ مغامرتها في تايوان. ويتضاءل ذلك الاحتمال… حتى الآن!
القدس العربي – 29 –مارس/آذار– 2022
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع