بين سوريا وتونس: عن دستورين واستفتاءين!
ذلك «الخطر الداهم» على علمانية الدولة وانفصالها عن الدين، كان مرتكز البعثيين في إقناعنا بضرورة تمرير ذلك الدستور، وإفشال هجمة الإسلام السياسي. لم نكن مقتنعين كلّياً بالأمر، وقدّم أحد رفاقنا ورقة قوية ينتفد فيها توسّع صلاحيات الرئيس في موادّ الدستور، وتعارض ذلك مع مفهوم الديمقراطية. لكنّ ذلك الاعتراض ضاع في زحمة المناقشات التي توقفت عند أمورٍ أخرى. أذكر جيداً أن رفيقنا ذاك، قد ذكر سبع موادٍ في صلاحيات رئيس الجمهورية، لا تعطيه صلاحيات تنفيذية مطلقة وحسب، بل أيضاً صلاحيات تشريعية تفوق صلاحيات البرلمان، وصلاحيات تحدّ من استقلالية القضاء بوضع الرئيس نفسه رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، ووزير العدل نائباً له. أصبح لقب ذلك الرئيس بعد وفاته ووراثة ابنه للرئاسة: «القائد الخالد». ولا يعكس ذلك محاولة لإضفاء القداسة عليه وحسب، بل أيضاً تأكيداً لأن الباب مغلق أمام التغيير، وأمام إمكانيات الأمل بوضع مختلف للبلاد، لا يتعامل معها كإقطاعٍ أبديٍّ لعائلة معيّنة.
تحرّكت تلك الذاكرة وشجونها بعنف مع الاستفتاء التونسي الأخير على مشروع الدستور الذي وضعه – عملياً- الرئيس قيس سعيّد، تحت ضغط صراعاته مع خصومه السياسيين، الذين يشكّل الإسلاميون – حركة النهضة- أيضاً طليعتهم. وذلك كان مأزقنا وحفرتنا نحن السوريين، حين أحالوا مخاوفنا من التشدّد الإسلامي- وهي حقيقية ومشروعة بالطبع- إلى غولٍ يجعلنا نترك الأمور لتذهب في طريق الاستبداد. قام الرئيس سعيّد بوضع أفخاخٍ شبيهة بتلك التي أشرنا إليها، ولم يكتفِ بتعميق النظام الرئاسي على حساب السلطتين التشريعية والقضائية وحسب، بل إنه قام بتطوير سلطات الرئيس التنفيذية. أقرّ رئيس اللجنة التي وضعت المشروع ذاته أن الرئيس قد عدّل المشروع الذي وضعته، وجعله دستوراً يمهّد بقوة للديكتاتورية. رئيس اللجنة هو الفقيه الدستوري الذي وثق به قيس سعيد لوضع دستوره، لم يفهم جيداً كما يبدو ما أراده منه الرئيس، ولم يتبرّأ من المسودة إلّا بعد تغييرها. لو فهم المُراد لرفض المهمة أساساً. لم يجعل الرئيس سعيّد من نفسه رئيساً للمجلس الأعلى للقضاء كما فعل آل الأسد، ولكن من يعيّنه ويعطيه مكانته، وهذه أخت تلك. وأعطى نفسه تفوّقاً في القدرة على التشريع أو الهيمنة عليه من خلال عدة مواد، على حساب البرلمان أو مجلس الشعب، الذي ذكر إلى جانبه مجلساً جديداً للأقاليم يوازيه في القوة التشريعية، وترك لنفسه تحديد ذلك المجلس وتعريفه من خلال قانون يصدر لاحقاً. ترك لنفسه صلاحيات الحكم والاستثناء والطوارئ، وتعيين الموظفين في كلّ المجالات. كما كان لافتاً، واجتهاداً جديداً وخاصاً، أن يعدّل تسمية» السلطات» إلى «وظائف»، ويترك الفقهاء الدستوريين في حيص بيص. وكما كان متوقّعاً، أدلى أكثر من ربع السكان بموافقتهم على مشروع الدستور، وكان هؤلاء يشكّلون حوالي 95% من المشاركين بالاستفتاء. ذلك أيضاً إشكال جديد، يسحب من الدستور التوافق الشعبي – السياسي المفترض، ويزيد من عنف الإجراء وعصبيته وارتجاله.. يؤكّد أيضاً توقّعات الاستبداد المقبل. لتونس علاقة عميقة وقوية في أذهاننا نحن المشرقيين بالتقدم والنهضة، منذ تعرّفنا إلى خير الدين التونسي، الذي امتلك الحكمة والفكر مع شيء من السلطة في الوقت نفسه، ما جعله متميّزاً حتى على نظرائه المصريين والمشرقيين في القرن التاسع عشر. حاول خير الدين أن يوفّق بين الليبرالية والإسلام بطريقته الخاصة، كما قال محمد الحداد في مقدمته لكتاب «أقوم المسالك في معرفة أخبار الممالك»، وعلى الرغم من أن محاولته فشلت بمقاومة من السلطتين الزمنية والدينية آنذاك غالباً، إلّا أنه أعطى في بحثه قوةً في المثال في منتهى الأهمية والإشارة إلى الدرب. لقد كان كتابه ذاك تفصيلاً فريداً في عصره للأوضاع في البلاد الأوروبية – أكثر بكثير مما فعل مع غيرها – من كلّ النواحي الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية، لكأنّه يقول: ذلك هو الدرب فاسلكوه! كانت تجربة بورقيبة وحكمه الطويل انعكاساً فيه بعض الجوانب القسرية – ربّما- لذلك الفهم، لها ما لها وعليها ما عليها، لكنّ المؤكّد أنها أضفت على التجربة التونسية إضاءة خاصة ما زالت لها مفاعيلها حتى الآن.
جعل ذلك المسار للعلاقة ما بين تونس والتونسيين وسوريا والسوريين طعماً جميلاً، حاول الآخرون إرجاعه إلى العصر الفينيقي، بشغف خاص… ربّما لذلك نشفق على التونسيين من مصائرنا، ومن دخولهم في نفق الاستبداد الأسود الطويل، الذي سينتهي أيضاً وحتماً إلى الفساد المعمم، حتى لو ابتدأ تحت شعار محاربته. لم يحقّق الربيع العربي نجاحاً بالحجم الذي حققه في تونس، بعد ثورتها التي كانت منها الشرارة الأولى مع إضرام البوعزيزي النار في نفسه. فقد جعلت الديكتاتور السابق يبادر إلى الفرار مذعوراً ليفسح المجال أمام عملية التغيير التي أزفت وآن أوانها، وابتدأت مسيرة الديمقراطية المتعثّرة والتنمية الأكثر تعثّراً، مع بروز حجم الإسلاميين وتقدّم حركة النهضة الانتخابي المتوقّع. لا بدّ هنا من العودة إلى تذكّر أجواء قديمة في العالمين العربي والإسلامي، تعطي للنهضة وزعيمها راشد الغنوشي منزلة خاصة بين فروع جماعة الإخوان المسلمين، أكثر تفتّحاً وانفتاحاً على العصر ومعطياته في الاجتماع والسياسة وشكل الدولة ومدى تحكّم تاريخ الاجتهاد بالواقع الراهن. في اجتماع إسطنبول منذ بضعة أعوام، خاطب الغنوشي الجماعة الدولية قائلاً: «أرى يوما بعد يوم أن لحظة الافتراق بيني وبينكم قد اقتربت»،» طريقكم خاطئ وجلب الويلات على كل المنطقة»، «أثبتم بأنكم قليلو الحيلة وتحالفتم مع منظمات إرهابية تدمر أوطانكم»،» لقد حذرتكم في مصر وسوريا واليمن ولكن لا حياة لمن تنادي»، «في تونس شكلنا رسالة واضحة لكم فقد تسلمنا الحكم وخسرنا الانتخابات، فمن افقدنا هذه الانتخابات هو الشعب التونسي لا غيره، هناك خلل بين ما قدمناه وصغناه ومارسناه مع الشعب التونسي، لم تأت قوى خارجية لتسقطنا، بل أخطاؤنا واجتهاداتنا هي المسؤولة»، « اتركوا كل بلد ووطن لأبنائه مهما كانت النتيجة وحتى إن خسرتم فأنتم صورة مماثلة للأنظمة الحالية، إن رفضكم الشعب تلجأون إلى العنف».
هل قال الغنوشي ذلك؟ كلّ المسار يوحي بعكس ذلك، وآخره ما حدث من فشل وخسران في تونس.. حتى مسؤولية هذا الدستور والاستفتاء عليه تقع على الجماعة. جزئياً أو كلياً، مع غيرهم أو كنتيجة لفشل جماعي بينهم وبين غيرهم. إن قال ذلك فالحصيلة مصيبة، وإن لم يقله.. فالمصيبة كائنة على أي حال. يقول بعض السوريين، بتأثير الإحباط من مسار اللجنة الدستورية التي فشلت في السير خطوة جدية واحدة إلى الأمام، إن المشكلة ليست في الدستور، بل في مكان آخر. ويبدو من مثال دستور قيس سعيّد واستفتائه، مع مثال ما انتهى إليه دستور حافظ الأسد واستفتائه في عام 1973، لا يبشّر بالخير… والبوم أولى بالحكمة!
موفق نيربية- القدس العربي –
٣-آب/أغسطس ٢٠٢٢
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع