عن المرحلة الثانية من العملية السياسية في سوريا: من التدخّل الروسي إلى مسار أستانة! موفق نيربية
وبعد ثلاثة أيام، نفى الأسد في مقابلة مع تلفزيون روسي ذلك، وقال إنه هو من رفض مراراً الموافقة على طلب دي مستورا لمقابلته. وواقع الأمر أن المبعوث السابق للأمم المتحدة قد قابل سابقاً وعدة مراتٍ الأسد، ولا بدّ من أنه صافحه حينذاك، كلاهما لم يقل الحقيقة!
ارتبطت استقالة الأخضر الابراهيمي أساساً بيأسه من توافق أمريكي روسي بعد احتدام أزمة القرم.. (وهذا يذكّر هنا أيضاً بأزمة الحرب الروسية الحالية على أوكرانيا وأثرها الحالي واللاحق في حظوظ العملية السياسية السورية، بشكل من الأشكال). في حين جاء تكليف دي مستورا أساساً في بدء تجلّي التساهل في تطبيق بيان جنيف والقرار الأممي رقم 2118 الصادرين في عام 2013، ابتداءً من منتصف عام 2014، وابتدأ الطموح إلى رحيل الأسد بالتراجع، والانتقال إلى نظام مغاير جديد، وسرى الفساد والتفسّخ في جسم الائتلاف المعارض، وشتّت كتلته الديمقراطية. بعد أشهر عقيمة تلت تكليف دي مستورا، ابتدأت أنظار العالم بالتحوّل إلى ساحة جديدة للأزمة السورية على الأرض الأوروبية، شغلته طوال العام التالي. أدّى ذلك إلى تحرير الصراع من بعض كوابحه، وضغط المعارضة المسلحة بقوة على الأرض، مع دور أكثر حرية لقوى إقليمية معينة، وتوازى ذلك في البداية مع محاولات من دي مستورا لتغيير استراتيجية الوساطة، والاحتيال على تعقيداتها بتقسيمها إلى أربع سلال، «مكافحة الإرهاب» التي لطالما وضعها النظام دريئة، دون التفاوض الجدي، ومسألة الدستور، والانتخابات، وقضايا الحكم. احتال دي مستورا أيضاً على وحدة المعارضة بتشتيت مشاوراته في جنيف أواسط 2015، لتشمل مروحة واسعة جداً من الأفراد والتجمعات، المنظمات المدنية والسياسية، لتكون نواة المعارضة جزءاً ضائعاً بينها. في محاولة للتماسك، وبدفع من كتلة قوية في الائتلاف وقفت في وجه الفساد من جهة الشمال واليمين، كان رفضُ الذهاب إلى تلك اللقاءات التشاورية، وتسجيل موقف يتمسّك بدور الأمم المتحدة ويطالب باستمراره وتدعيمه، ولكنه يقدّم موقفاً حازماً للمرة الأخيرة، أشاد به الناطق باسم الأمين العام يومها. وتمّ تضمين الموقف في وثيقة ورسالة غابت بعد ذلك وتجاهلها القوم. فكان أن بدأت روسيا في آب/أغسطس من ذلك العام بإرسال طائراتها الحربية ودباباتها المتطورة إلى قاعدة حميميم الجوية قرب مسقط رأس الأسد، بالتوازي مع إبرام معاهدة يسلّم فيها النظام الروس تلك القاعدة مجاناً وبعقد أبدي، بل يمنحهم وضعية دبلوماسية تحميهم وتمنع ملاحقتهم القانونية مهما فعلوا من جرائم. حدث هذا في وضع دولي مريح أتاحته محادثات على أقساط بين وزيري الخارجية الأمريكي والروسي، لتصفية الأجواء والديون نتيجة احتلال القرم من جهة، ثمّ تغيير الحكومة الأوكرانية وتوجّهها غرباً. مع طلب النظام السوري- بوجود سليماني- تدخّل الروس والمساعدة على صدّ تقدّم القوات المعارضة حتّى أبواب دمشق، أصبح كلّ شيء جاهزاً، وابتدأ القصف الروسي في 30 أيلول/سبتمبر، لتغيير المعادلة على الأرض، تحت شعار مكافحة الإرهاب نفسه، وابتدأت اجتماعات فيينا بعد ثلاثين يوماً فقط .. تحت النار.
أصدر المجتمعون بيان فيينا الأول في 30/10، الذي يتكلّم عن المسائل العامة مثل «وحدة سوريا واستقلالها وسلامة أراضيها وهويتها العلمانية» و»الحفاظ على مؤسسات الدولة» والمساعدات الإنسانية، وتدعيم العملية السياسية. وتمّ ترك النقاط الملموسة لاجتماع انعقد في 14/11 بعد التشاور وتمهيد العقبات، ليصدر إثره بيان فيينا الثاني، الذي انطلق من بيان جنيف نظرياً، وقام بتفخيخ جوهره ولبّه، وهو البدء بتشكيل هيئة حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، ليحلّ محلّها تعبير «حكومة انتقالية»، مع تركيز على مسألة الانتخابات وفتح ثغرة فيها كمنطلق للحلّ السياسي. وترافق ذلك أيضاً مع بحث لتوسيع تمثيل المعارضة، وضمّ الأجسام الأخرى في دمشق (هيئة التنسيق الوطنية) والقاهرة (مؤتمر القاهرة)، وممثلي الفصائل العسكرية، إلى تلك التي في إسطنبول التي كانت قد احتكرت التمثيل حتى ذلك الوقت. انعقد مؤتمر الرياض الأول، وتأسست الهيئة العليا للتفاوض، تحت سقف عالٍ وحرارة ليست بالقليلة. وكانت المشاركة توافقية، ولكن الغلبة بقيت- رسمياً- للخط الحامي والبنى الحامية. ثم جاء قرار مجلس الأمن 2254، على خطى بياني فيينا ومؤتمر الرياض، وضمن السياق ذاته: التمسك رسمياً ببيان جنيف والقرار 2118، مع فتح ثغرة حقيقية فيهما في الوقت نفسه. فتح هذا الباب لمتابعة اجتماعات جنيف، ولم يكن ناقصاً إلّا زلزلة الأرض تحت أقدام المعارضة والثورة والربيع، فكانت نقطة التحوّل الأكبر، يوم سقطت أحياء حلب الشرقية بيد النظام، في نهايات عام 2016. وبسبب ازدحام الأحداث آنذاك، تعطّل عقد اجتماع جنيف – 3 عدة مرات بين كانون الأول/ديسمبر وكانون الثاني/يناير، مع أنه حين التأم في الشهر الأول افتقد إلى أيّ طعم، أو نتيجة عملية مهما صغرت. كما انعقد جنيف ـ 4 في الشهر الذي تلاه، ولم يشهد إلّا تراجعاً بروتوكولياً مهماً من قبل المعارضة، انعكس على المسار التالي، انعكس على دي مستورا سعادةً وسرورا.
في الكانونين المذكورين، لم يعد ممكناً استمرار حال المعارضة – والائتلاف- بالذات على ما كان عليه في حالة تدهور مستمرة سياسياً وتنظيمياً واستراتيجياً، بعد أن جرّنا التسلّط والارتهان والفساد والإسلام السياسي إلى كارثة حلب، فانسحب معظم من بقي في الائتلاف من الديمقراطيين، بعد الاصطدام الدائم بجدار الرفض، أو الالتفاف على مطالب التغيير في المبنى والمعنى، في الشكل والمضمون. من ثمّ كان ذلك انعكاساً لحالة جديدة أكثر بعداً عن بداية الانتفاضة، وحتى عن بداية المرحلة الثانية هذه. تمّ توفير مساحة موازية في مسار أستانة، الذي تمارس فيه «الدول الضامنة» في موسكو وإيران وتركيا مسارها الخاص الجديد، الضاغط على مسار جنيف، والمحدّد لخطواته.. كما يحدّد ويضبط في الوقت نفسه خطوط الصراع على الأرض، ويشتّت وحدة المعارضة العسكرية والسياسية أكثر مما شتّتها أهلها.. ابتدأ عهد» تخفيض التصعيد» الذي ساد العام التالي لسقوط حلب كلّه 2017. أقرّت تركيا وروسيا بحضور إيران- بظلّها الداكن- تحديد أربع مناطق ينبغي خفض التصعيد فيها: ريف حمص الشمالي، وغوطة دمشق الشرقية، وشمال غرب سوريا الذي يشمل ريف حماة الشمال وبعض ريف اللاذقية الشرقي وإدلب وريف حلب، إضافة إلى جنوب غرب سوريا حيث اتفّق عليه الأمريكيون والروس، مع أثرٍ أساسي لإسرائيل. وكانت أطراف بحث ودراسة أمريكية قوية قد اقترحت تحديد مناطق النفوذ ورسم خطوطها وتثبيتها في انتظار يوم ما تنشط فيه عملية سياسية حقيقية، فنفّذ ذلك الترك والروس نظرياً، وأوغلوا في تحطيم تلك الحدود عملياً؛ النظام والروس على وجه الخصوص، حيث تمّ إنهاء وجود المعارضة في ريف حمص وغوطة دمشق وتمّ تأسيس حلولٍ متنوعة لجنوب الغرب، مع قضم متتالٍ لمنطقة الشمال الغربي لم تتوقّف. هنا حكاية أخرى أيضاً! استمرّت مهمة دي مستورا عامين قبل سقوط حلب، وعامين بعده، ثم استقال، لأسباب شخصية كما قال!
القدس العربي – 14 سبتمبر , 2022
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع