رحل عماد شيحا ذاك الفارس النبيل! – اكرم البني
رحل منذ أيام، آخر الباقين من أعضاء المنظمة الشيوعية العربية الذين طالتهم يد القمع السلطوي الوحشية في منتصف السبعينيات (1974)، فأعدم خمسة منهم (آب 1975)، هم الفلسطينيون علي الغضبان وعلي الحوراني ومحمد خير نايف ومحمد وليد عدوان، والسوري محمد غياث شيحا شقيق عماد، وحكم على عشرة آخرين بالسجن لمدد طويلة، كانت حصة عماد شيحا منها، ثلاثين عاماً، قضاها منذ كان في سن العشرين، بين أقبية فرع فلسطين وسجون المزة والشيخ حسن وعدرا وتدمر وصيدنايا، قبل أن يطلق سراحه (2004).
تعرفت على عماد ورفيقيه الراحلين فارس مراد الفلسطيني وهيثم نعال السوري، أواخر التسعينيات في سجن صيدنايا بعد نقلهم اليه، كان كل منهم قد قضى ما يقارب الخمس وعشرين سنة في السجون، منها تسعة عشر عاماً في سجن تدمر السيء الصيت، وكانت الصدفة المفرحة، أن ينضموا الينا في جناح مخصص لمجموعة من السجناء اليساريين، وغالبيتهم تنتمي الى حزب العمل الشيوعي.
كان اللقاء معهم لدى الكثيرين منا أشبه بالحلم، هو لقاء مع مناضلين طالما استحضرنا جرأتهم في تحدي السلطة السورية وهي بعز قوتها، لنستمد منهم العزم والشجاعة عندما ينال الضعف والتردد منا، فقصتهم هي قصتنا كحلقات ماركسية، ودافعهم للنضال هو دافعنا، لتعويض الفشل الذريع لمروحة واسعة من الأحزاب القومية والشيوعية وعجزها عن استنهاض الشعوب العربية المقهورة ضد أنظمة القمع والاستبداد.
كان لهم قصب السبق، كيساريين، في اختبار أقبية التعذيب والسجون، وكان يخطر في بال الكثيرين منا، أن خمسة وعشرين عاماً لا بد أنهكتهم، وأنهم وصلوا الينا بعد أن هدّهم الاعتقال الطويل وشدة معاناتهم في السجون، لكن المفاجأة، أن الحقيقة كانت على العكس تماماً، وظهر أن هؤلاء الأشاوس كانوا على قدر المبادئ الإنسانية السامية التي اعتنقوها، وحافظوا على عزم الاستمرار في مقارعة كل أشكال الظلم والطغيان، بل، ولأقل بصراحة، إنهم بذاك العزم، ردوا بعض الروح الينا وربما وجهوا صفعة قوية إلى بعضنا، ممن نجح السجن في النيل منهم وأضعف تحملهم وصمودهم، وصاروا يجاهرون تباعاً بالانسحاب من التزاماتهم النضالية، تحت حجج وذرائع كثيرة.
في أولى السهرات التي جمعتنا في السجن، لمست مدى لهفته والصدق في كلماته عندما بادر الى الاجابة عن سؤال لم يطرح عليه، لكن ربما بحسه المرهف ونباهته، كان يقدر بأنه السؤال الأول الكامن في النفوس، في قوله بأن المنظمة الشيوعية العربية، وعلى خلاف ما هو شائع، لم تعلن الكفاح المسلح كاستراتيجية بقدر ما كان همها من استهداف المصالح الأميركية، جذب الانتباه إلى أولوية رفض الدور الأميركي في المنطقة وفضح انحيازه المطلق الى الكيان الصهيوني وتغطية جرائمه! لكن، من دون إيقاع أذى بالأرواح، كرر هذه العبارة قاصداً، مرات عديدة.
كم هو محزن وممض يا صديقي حين يصر البعض على تكثيف قصتك وحكاية رفاقك في عمليتين يتيمتين، زرع متفجرة صغيرة ليلاً قرب الجناح الأميركي في معرض دمشق الدولي، ومثلها فجراً، عند مدخل شركة NCR الأميركية، والتي، للأسف قضت، صدفة، على بائع متجول! لينساقوا، ربما عن حسن نية، مع ما روّج له النظام السوري وأعوانه، ويتجاهلوا عمداً الدوافع السياسية لما قمتم به، وعمق تلاحمكم، كفلسطينيين وسوريين، في مواجهة كل صنوف القهر والذل والحرمان، والأهم ماهية أرواحكم المتقدة بإيمان لم يتزعزع بالحرية والعدالة.
لا، لم يغير السجن آرائي، هكذا كنت أفكر وهذا موقفي منذ اعتقلت! كان ردك هادئاً وواثقاً على سؤال عن تأثير تجربة الاعتقال المريرة في تبديل مواقفك وآرائك التي تجاهر بها الآن! وإذ أعترف بأن ما قلته يا صديقي بقي موضع شك لدى بعضنا، لكن إلى حين، الى لحظة وضوح اصطفافك مع ثورة السوريين، وتحذيرك من حمل السلاح والتخلي عن سلمية الحراك… فبدوت وأنت المتهم بالميل الى العنف في أشد مراحل الركود السياسي والشعبي، أكثر قدرة على تلمس المخاطر الأخلاقية والسياسية لعسكرة ثورة الملايين.
رحل عماد بعيداً عن وطنه في مدينة باريس، إثر صراع مع المرض، وكأنه أبى أن يترك رفيق دربه، هيثم نعال، وحيداً في الثرى الفرنسي، وقد وافته المنية أيضاً منذ شهور في باريس نفسها… رحل محباً للحياة والبشر، ومتحرراً من أية مشاعر توحي بالندم والتحسر على ما اقتطعه الظلم والقهر من سنوات عمره… رحل وهو يلتهم الزمن عطاءً وإبداعاً ثقافياً، فقدم من خلاصة تجربته ثلاث روايات وضع بعض مخطوطاتها في السجن: “موت مشتهى” (2005)، “غبار الطلع” (2006) و”بقايا من زمن بابل” (2008)، تلاها كتاب بعنوان “تنمية الموارد البشرية، سوريا مثالاً” (2011). كما قام بترجمة عدد من الكتب المهمة في الفكر الفلسفي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، من أهمها: “صدام الاسلام والحداثة في الشرق الأوسط” لبرنارد لويس (2006)، “اللوبي الاسرائيلي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة” لجون ميرشايمر وستيفن والت (2007)، “منطق الكتابة وتنظيم المجتمع” لجاك غودي (2017)، “أنا الشعب، كيف حوّلت الشعبوية مسار الديموقراطية” لناديا أوربيناتي (2019)، “الاقتصاد كما أشرحه لابنتي” ليانيس فاروفاكيس (2020)، “الغباء البشري” لكارلو شيبولا (2020)، “العالم للبيع: مافيات تحكم الأرض وتنهب مواردها” لخافيير بلاس وجاك فاركي (2021) وآخرها “فلسفة الفوضى” لسلافوي جيجيك (2022) الذي صدر قبل وفاته بأيام.
بعيداً عن تأثير إنجازاته الثقافية، أعترف بأن ثمة تأثير خفي تركه عماد فينا، في أرواحنا وعقولنا، نحن الذين شاركناه السجن لسنوات. أيكفي تذكيركم بأنه أذهلنا وأغرانا بقوة حبه للحياة والنشاط، ونحن نراقب، بعد سجن طويل، دقة التزامه بموعد صباحي لممارسة الرياضة على الرغم من شدة البرد أو القيظ؟ أتفيدكم الاشارة الى أنه فضح ميلنا الى استسهال الاسترخاء والكسل عندما كان لا يقدر على النوم إلا إن أنجز خطة عمله اليومي، وأثار غيرتنا حين نراه ينكب، من دون حركة أو نأمة، لساعات على القراءة والكتابة وإتقان أصول الترجمة إلى العربية؟ ألا يدهشكم القول بأنه أخجلنا وفضح أنانيتنا وروح المشاكسة لدينا حين كنا نتأمله كيف ينسحب بنبل فريد، من أية مشكلة تعترضه، حتى لو كان فيها خاسراً، كي لا تشوب علاقته الانسانية مع الآخر، شائبة؟
أصوغ كلماتي هذه، ليس فقط، كمجرد أداء واجب تجاهك كصديق أحببت فيه مثابرته ودماثته وطيب قلبه، أو لتخفيف ما يعتمل في صدري من حزن وألم على رحيلك المبكر، وليس كوعد للوفاء بما كنا نحلم به، بمدينة فاضلة تفيض بالتنوع والاختلاف، وتتسع لكل ما راكمته البشرية من قيم وأخلاق نبيلة، بل لأنحني صادقاً لزمن، زمن ليس ككل الأزمان، ضاج بتفاصيلك، وصاخب بحقيقة طالما كرّستها بسلوكك، بأنه مع الأمل والحلم والارادة تغدو حالات اليأس والاحباط لحظات قصيرة وعابرة في حياتنا.