افتتاحية: القصة لم تنته
القصة لم تنته
خلقت الأحداث الكارثية، التي تعرضت لها سورية بعد زلزال بداية هذا العام في شباط 2023، مناخاً عالمياً وعربياً متعاطفاً، فتم استثناء سورية من تطبيق بعض العقوبات الاقتصادية لفترة تم تمديدها فيما بعد، واستمرت، بطريقة اكثر حيوية، مبادرات بعض الدول العربية في التقارب مع النظام، وتم تتويج الجهود باتخاذ القرار بعودة سورية إلى الجامعة العربية بعد حوالي 12 عاماً خارجها، بعد أن كانت الجامعة قد بذلت كل الجهود لتحقيق أي حل سياسي، لكن عدم استجابة النظام اضطرها، في ت2 2011 إلى تجميد عضوية النظام في الجامعة و ترحيل الملف إلى الأمم المتحدة.
هذه العودة، بغض النظر عن نتائجها الفعلية، ولدت شحنة إضافية من الإحباط، لدى السوريين في الشتات أو خارج مناطق سيطرة النظام، بالترافق مع الإحباط الناتج عن مصائر الربيع العربي في الفترة الأخيرة في كل من تونس والسودان، بسبب كونها تشكل عائقاً أمام تقدم مسار الحل السياسي من خلال القرارات الأممية، أو على الأقل حرفاً لهذا المسار عن طريقه المحتمل، وربما توهم السوريون داخل مناطق سيطرة النظام، وهو ما روجت له الديماغوجية الإعلامية لنظام الأسد، أنها ستكون بداية ل”فك الحصار” عن سورية وتحسن الأوضاع الاقتصادية، النظام، من جهته، وجدها فرصة مناسبة لتحريك الاهتمام بوضعه السياسي من خلال البوابة العربية لأنه غير قادر على الانخراط في مسار الحل السياسي من خلال البوابة الأممية والقرار 2254 الذي يقر بدور هام للنظام في المرحلة الانتقالية لكنه لا يضمن له الاستمرار كطرف مسيطر وحاكم، ربما يفكر ليس فقط بتأمين استمراره في الحكم بل ربما في التوريث الذي يبدو هذه المرة النسخة المهزلة والتي هي غير قابلة للتحقق.
في جميع الأحوال لابد من فهم مسار ودوافع التطبيع وإمكانات نجاح المسعى العربي، والتوقعات لمستقبل هذه المبادرة، فالنظام العربي يطرح نفسه بديلاً عن الحليفين الإيراني والروسي العاجزين عن مساعدة النظام وإعادة تعويمه بغير التواجد العسكري و الميليشياتي، و محاولات استعادة النظام إلى الجامعة العربية ليست جديدة فقد حاول النظام الجزائري ودولة الإمارات طرح الاقتراح في قمة الجزائر 2022 ولقيت الفكرة معارضة السعودية ومصر وقطر حينها،، لكن الحماس الأكبر جاء هذه المرة من دول مجاورة مثل الأردن المعنية بموضوعين هامين هما اللاجئين والمخدرات ودون أن ننسى مشكلة التخوف من النفوذ الإيراني. ربما تبدو الحجة الأكثر منطقية في تغيير المواقف أو تعديلها هي عدم نجاح عزل النظام ومقاطعته في تحقيق أي تغيير سياسي، وقد يكون هناك توافق عربي عام على الشعور بأن الدول العربية، من خلال مقاطعتها للنظام، تركت الساحة السورية لإيران، لكن الأسباب الأخرى لتغيير المواقف تختلف في نوعها وأهميتها من دولة لأخرى، السعودية، التي تحاول بناء نموذج جديد للعلاقات الإقليمية يتوافق مع خطط التحديث والتطوير الداخلي وإن كانت حريصة على علاقة طيبة مع إيران، بعد أن خذلها الغرب في صراعها مع الأخيرة، لكنها حريصة أيضاً على نفوذ إقليمي نادراً ما كانت سورية خارجه طوال تاريخها الحديث. الأردن يبدو معنياً بشكل أكبر بكثير بقضية النفوذ الإيراني القريب من حدودها بما يطرحه من قضايا التشيع ودعم الميليشيات الموالية لإيران، غير المرغوب بنفوذها مثل حزب الله، ومن يشبهه أو يتبع له. الأردن والعراق ودول الخليج جميعها تبدو معنية بقضية المخدرات التي أصبحت تشكل تهديداً اجتماعياً قوياً مصدره النظام السوري، الذي اكتسب سمعة سيئة عالمية في هذا المجال بدعمه المباشر من خلال مجوعاته العسكرية أو شبه العسكرية، أو بتساهله مع صانعي ومصدري الكبتاغون. أخيراً يمكن أن نضيف سبباً هاماً، تستفيد منه دول الإقليم هو أهمية فتح طرق التجارة الدولية البرية القادمة من تركيا وسورية.
ما طرحته المبادرة العربية، بغض النظر عن دوافع وأسباب كل نظام، أو الدوافع المشتركة بين الأنظمة، لا يتضمن وجود دوافع حقيقة مهتمة بإيجاد حلول سياسية للوضع السوري، فطرح استعادة سيادة النظام على جميع الأراضي السورية وخروج القوات الأجنبية يأتي في سياق ما يريده النظام لتقويته واستعادة سيطرته وإنهاء معارضيه الذين يحظون بدعم إقليمي أو دولي، في حين يحافظ هو على وجود القوى الأجنبية التي يعتبر وجودها شرعياً لأنه هو من استدعاها لحمايته. قضية عودة اللاجئين الحرة والكريمة والطوعية التي وافق النظام على تسهيلها، وبعد مضي أكثر من شهرين على هذا التوافق لم تحقق أي تقدم حقيقي، وبالعكس نحن نشهد ازدياد الإقبال على الهجرة من سورية رغم صعوبتها ومخاطرها و حادثة الغرق الأخيرة التي قضى فيها عدد كبير من شباب مدينة درعا خاصة تشكل نموذجاً مأساوياً جديداً.
الجامعة العربية طرحت مبادرتها اعتماداً على مبدأ خطوة مقابل خطوة، طبعاً لا توجد أية خارطة طريق تحدد خطوات كل طرف، فالنظام لا يريد ولا يستطيع التعامل بوضوح مع ملف المعتقلين والمفقودين ولا يستطيع تسهيل عودة اللاجئين التي تتطلب تعاملاً سياسياً مختلفاً مع العائدين، الذين حتى لو لم يكونوا معارضين فهم أقرباء معارضين أو ينتمون إلى نفس العائلات والمدن والقرى وبالنسبة للنظام هم موضع شبهة ولابد من التعامل معهم أمنياً، وتوجد تجارب فردية كثيرة غير مشجعة، وإذا تجاوزنا المسألة الأمنية، تحتاج العودة إلى إجراءات إدارية وتأمين بنية تحتية لا يزال النظام عاجزاً عن تأمينها أساساً حتى للسكان الذين لم يهاجروا، والموضوع يبدو أكثر تعقيداً بالنسبة لمناطق السكان الأصليين التي تحتلها ميليشيات داعمة للنظام، والمفارقة هنا أنه رغم كل هذه المعاناة نجد أن بعض المهاجرين اللاجئين، وبسبب التعامل السيئ من قبل مضيفيهم، يفضلون العودة رغم جميع المخاطر المحتملة، أما عن العودة بأعداد كبيرة فلا تزال بعيدة عن التحقق.
مع أن المصادر الغربية تعتقد أن النظام السوري لم يقم حتى الآن بتحرك يذكر في مجال مكافحة المخدرات، ومنذ عدة أيام سمعنا صرح ناطق باسم الجيش الأردني عن إسقاط مسيرة في الأردن تحمل مخدرات قادمة من سورية، لكن إذا افترضنا أن النظام نجح في التقدم خطوة ما، ولتكن على سبيل المثال وقف تصنيع وتهريب المخدرات، وهي خطوة قد يستطيع إنجازها، كيف سيرد عليه العرب؟ الموقف الغربي لا يزال واضحاً من رفض التطبيع، ولكنه يترك العرب يلعبون لعبتهم ويجربون سياسة استيعاب النظام بدل مواجهته، وإذا كان الرد المقترح للدول العربية أو الخليجية هو تقديم مساعدات مادية لإعادة بناء البنية التحتية فهو سيصطدم بالقرارات الدولية الخاصة بمقاطعة النظام خاصة قوانين قيصر والكبتاغون ورفض التطبيع وحالياً يناقش الكونغرس قانونا يهدف إلى عدم تمديد تعليق العقوبات على نظام الأسد، والتي جميعها لابد منها للضغط على النظام ليقبل تنفيذ القرارات الدولية، وإذا كان الثمن استعادة العلاقات الطبيعية مع المجتمع الدولي فهذا رهن بتطبيق قرارات الشرعية الدولية. بالطبع توجد بعض المنافذ لتقديم دعم مادي من مثل “التعافي المبكر” لكنها لا تكفي لاستعادة خدمات البنية التحتية شبه المنهارة.
أخيراً من الواضح أن الإعلانات السياسية والزيارات الديبلوماسية المبنية على بعض الرغبات وتقاطعات المصالح ليست بقادرة على تقديم حلول سياسية حقيقية، وكيفما كانت طريقة التعبير عنها “خطوة مقابل خطوة أو خطوة بخطوة” وفقاً لتعبير المبعوث الأممي السيد “بيدرسون” في إحاطته الأخيرة منذ عدة أيام، فإن الحلول المقترحة، لا تحمل خرائط طريق حقيقية ولا جداول زمنية كما أنها لا تحظى بإشراف ومتابعة منظمات دولية ذات مصداقية، هي فقط محاولة لملئ الفراغ الناجم عن عدم توفر الظروف الدولية، خاصة المتعلقة بالأمريكان والروس، والإقليمية المناسبة لبدء مسار الحل السياسي الشامل في سورية، هذا في حين أن الوضع الاقتصادي في سورية، ليس فقط لم يتحسن بعد عودة النظام للجامعة العربية، بل هو يزداد سوءاً يوماً عن يوم كما تعبر عنه الأزمة الاقتصادية وتدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية، وتزداد حالات التعبير السلبي عن معاناة السوريين سواء بمحاولات الهجرة شبه اليائسة أو على الأقل بتهجير الأبناء، وكذلك في ازدياد الاضطراب الاجتماعي بزيادة معدلات القتل والانتحار، أو في التململ الاجتماعي الذي يعبر عن نفسه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بجرأة نادرة، ويترتب عليه أحياناً المتابعة الأمنية وربما الاعتقال.
عودة النظام إلى الجامعة العربية لا تعني أن القصة قد انتهت، وإن رؤية اللوحة السياسية والاجتماعية السورية كما هي، بعيداً عن الرغبات والتصورات، هي التي تسمح بالبحث عن أشكال العمل السياسي الممكن، والتي كما نعتقد في “تيار مواطنة”، يجب أن تعتمد كل تنسيق وتعاون ممكنين بين الفعاليات السياسية داخل وخارج سورية، كما تعتمد على مراكمة أية نضالات جزئية، وحيث أمكن، دون شعارات فارغة تطالب الداخل السوري المنهك بالتحرك، وفي الوقت نفسه متابعة ما يقوم به السوريون في كل مكان، خارج سورية، مع المنظمات العالمية والدول التي لا تزال مصرة على تطبيق القرار 2254، من فضح وملاحقة قانونية للمسؤولين ومن الضغط لعدم التطبيع مع النظام. ولا يزال ضرورياً تطوير أشكال جديدة من التحالفات السياسية سواء على مستوى العمل الديموقراطي الذي يتشارك في رؤية سورية ديموقراطية لامركزية، أو في مرحلة لاحقة على مستوى العمل الوطني الذي يتوافق على بداية الانتقال السياسي كحد أدنى.وإن تعدد مبادرات العمل الجبهوي في الأشهر الأخيرة لن يصبح ذا فائدة دون خلق مؤسسات فاعلة ومنظمة تقود عملاً منظماً ومتواتراً يربط جميع ساحات النضال في مختلف المناطق السورية وفي مناطق الشتات ويؤسس لعلاقات مع جميع الدول والمنظمات، ليس فقط لإبقاء الاهتمام بالوضع السوري وإنما لتسريع الوصول إلى مرحلة الانتقال السياسي.
تيار مواطنة
28/07/2023