دراسات سياسة: الدروس التي ينبغي تعلّمها من الثورة السورية.. والدروس التي كان يجب تعلّمها قبل فترة طويلة

الدروس التي ينبغي تعلّمها من الثورة السورية.. والدروس التي كان يجب تعلّمها قبل فترة طويلة

الكاتب: نيكولاس فان دام
تاريخ النشر: 01 آب /اغسطس 2023
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة.

بعد مرور أكثر من اثني عشر عامًا على بداية الثورة السورية التي اندلعت عام 2011، قد يكون من المفيد التفكّر في مسألة التعلّم: هل بإمكاننا تعلّم شيء منها أم لا. في نهاية المطاف، فشلت الثورة فشلًا ذريعًا: مات نصف مليون شخص، وهناك أكثر من (10) ملايين لاجئ سوري، والبلاد مدمّرة، ولا يزال النظام السوري في السلطة، وقد استعاد السيطرة على معظم أنحاء البلاد، وهناك كثير من المناطق التي تحتلها قوى أجنبية أو ميليشيات سورية متنافسة، وتُسمى “مناطق محرّرة”، وليس هناك أيّ حل سياسي في الأفق، ولا إعادة إعمار للبلد نتيجة للعقوبات المفروضة ونقص الموارد، والدول العربية التي حاولت عبثًا المساعدة في إطاحة النظام السوري، لأكثر من عقد، أخذت تعيد العلاقات الدبلوماسية مع دمشق.

في ما يلي، بعض الدروس التي ينبغي -في رأيي- تعلّمها من الثورة السورية، وبعض الدروس التي كان يجب تعلّمها منذ عقود، قبل وقت طويل من بدء الثورة. تبدو هناك عدة دروس أساسية إلى حدّ ما، ولكن قد تختلف الآراء في ما ينبغي عدّه “أساسيًا”.

إن تقديم صورة صادقة واقعية هو نوع من الصداقة للشعب السوري، وهو أفضل من مجرد إطلاق كلمات لطيفة من الدعم المعنوي/ الأخلاقي وخلق توقعات وآمالٍ خاطئة. ومع ذلك، فإن كثيرًا من أولئك الذين يعدّون أنفسهم “أصدقاء” يفضّلون صورة غير واقعية تسود فيها الأفكار (الصحيحة) حول العدالة، على الحقائق القائمة على الأرض: فهم يشددون على ما يجب أن يحدث، بدلًا مما يمكن توقّعه بشكل واقعي.

أساء كثيرٌ من المراقبين، ومن ضمنهم السوريون، تقدير مدى قدرة النظام السوري على البقاء. لقد وفّر الافتقار إلى المعرفة الكافية بسورية مساحة كبيرة للتفكير غير الواقعي والتفكير الرغبوي. ومع ذلك، يجب الاعتراف بأن الأشخاص الذين لديهم كثير من الخبرة بسورية منقسمون بشدة في آرائهم، حول مدى صلابة النظام، وتبيّن أن بعضًا منهم متأثرون بشدة بالتفكير الرغبوي أيضًا.

كان على أولئك الذين أرادوا إطاحة النظام السوري أن يكونوا متأكدين من معرفتهم به، وأن يكونوا على دراية كافية بنوع ردة الفعل المتوقَعة. في بداية الثورة السورية في عام 2011، كان قد مرّ على وجود نظام البعث السوري في السلطة ما يقرب من نصف قرن (منذ عام 1963). لذلك، كان ينبغي أن تكون المعرفة به والتجارب معه معروفة على نطاق واسع؛ وكان من الصعب أن يكون الأمر خلاف ذلك. ولذلك، كان ينبغي أن يكون واضحًا تمامًا، من تاريخ النظام الوحشي، أن أي جهد لإطاحته -سواء كان سلميًا أم لا- لا بد أن يؤدي إلى عنفٍ شديد، وأنه ينبغي توقّع حمّام دمٍ أكيد. إن التشديد على الحجة القائلة بأن الثورة السورية كانت سلمية في البداية -سواء كانت صحيحة أم لا- كانت حجّة أخلاقية، أثّرت بالتأكيد في الطريقة التي كان على كثير من الناس داخل سورية وخارجها أن يقيّموا الثورة بالنظر إليها. ومن المفهوم أن الثورة اجتذبت تعاطفهم ودعمهم، لكن هذا لم يغيّر الحقائق الصعبة على الأرض. كان تصوير الثورة السورية على أنها حركة سلمية مُقنعًا أخلاقيًا لكثيرين، حيث أدى (بشكل مبرر) إلى استياء كبير من سلوك النظام السوري الرهيب. لكن لم يكن من الممكن إسقاط النظام السوري بالتظاهرات السلمية، ولا مع عدم كفاية القوة العسكرية. تختلف سورية عن مصر وتونس، اللتين استقال رؤساؤهما بعد وقت قصير نسبيًا من بدء تظاهرات الربيع العربي هناك، حتى قبل التظاهرات في سورية [1]. كانت سورية مختلفة أيضًا عن ليبيا، التي أمكن القضاء على زعيمها القذافي وقتله نتيجة التدخل العسكري الأجنبي.

إن التضامن القويّ بين العلويّين ضمن النخبة العسكرية والأجهزة الأمنية السورية (المخابرات) جعل إسقاط النظام من الخارج أمرًا مستحيلًا (ربما باستثناء الاحتلال العسكري الأجنبي الكارثي، كما حدث في العراق عام 2003). إن خبرة النظام الطويلة الممتدة لعقود، في قمع أي مخالفٍ أو معارِض، جعلته مقاومًا للانقلاب. حتى الانقلاب من داخل النظام ليس له سوى إمكانية ضئيلة جدًا للنجاح في إسقاطه. ويبدو أن جماعات المعارضة أخطأت بشدة في التقدير، وقللت من شأن ما كان يمكن أن تتوقعه (كما هو متوقّع) من النظام.

لا تتعامل مع الجيش، فهو خصم أقوى بكثير. أولئك الذين أرادوا إطاحة النظام السوري لم يكونوا أقوياء بما يكفي لتحقيق أهدافهم. من خلال عدم أخذ هذا الأمر في الحسبان، جازفوا بحمّام دم، حيث كان الضحايا كثيرًا من الأبرياء، سواء أكانوا من القتلى أو من اللاجئين، والنتيجة وطن مدمّر/ أمّة مدمّرة. أولئك الذين لم يكونوا أقوياء بما يكفي لقتل “الأسد the lion” (في هذه الحالة الرئيس الأسد)، خاطروا بشدة بأن يقتَلوا أنفسهم، مع رفاقهم، جنبًا إلى جنب مع مئات الآلاف من السوريين الآخرين الذين لم يكن لهم رأي في ذلك. ومع التدخل العسكري لروسيا عام 2015، حُسِمت الحرب -بشكل أو بآخر- لصالح النظام، لكن الحرب ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا، على الرغم من تجميد الجبهات المختلفة على ما يبدو.

كان على أولئك الذين أرادوا إطاحة النظام أن يأخذوا في الحسبان بجديّة ما كان النظام قادرًا على فعله في الماضي، وكان أهم مثال لذلك ردة فعل النظام على انتفاضة الإخوان المسلمين في حماة عام 1982. كان النظام في ذلك الوقت ضالعًا بالفعل بارتكاب فظائع شديدة وغير متناسبة، لكن الإخوان المسلمين كانوا مسؤولين بشكل مشترك عما حدث، لأنهم أثاروا بتمردهم العنف، بعد أن كشف النظام عن شبكتهم السرية في المدينة. أخطأ الإخوان المسلمون تمامًا في التقدير بأنه لم يكن لديهم أدنى فرصة لإسقاط النظام الأقوى منهم بكثير.

سبقَ مذبحة حماة سنوات من اغتيالات الأفراد العلويين المقربين من النظام، نفذها متطرفون من الإخوان المسلمين (الطليعة المقاتلة)، بدءًا من عام 1976، فضلًا عن المذبحة الطائفية للطلاب العلويين في الأكاديمية العسكرية في حلب في عام 1979. استغرق النظام في عام 1982 ما يقرب من ثلاثة أسابيع لقمع تمرد الإخوان المسلمين بشكل دموي، وهو ما يشير إلى أن الإخوان كان لديهم كثير من الإمكانات لمقاومة هجمات النظام الشرسة.

يمكن للمرء أن يتوقع بأن معرفة النتائج في حماة -(10,000) حالة وفاة، كثير منهم أبرياء وغير متورطين على الإطلاق في جماعة الإخوان المسلمين- كانت راسخة بعمق في الذاكرة الجماعية السورية، ولكن يبدو أن كثيرين في بداية الثورة السورية عام 2011 قد نسوا ذلك، أو تخيّلوا أن احتمالات النجاح هذه المرة كانت واعدة أكثر بكثير مما كانت عليه في عام 1982. بالنسبة إليهم، يبدو أن حاجز الخوف قد كُسِر.

وبينما اقتصرت مذبحة حماة عام 1982 على مدينة واحدة فقط، وقعت خلال الثورة السورية المذابح وإراقة الدماء، على نطاق أوسع بكثير، في عموم البلاد، بطريقة مماثلة إلى حد ما.

جادل كثيرٌ من أنصار المعارضة السورية بأنه من الخطأ نسب أي مسؤولية مشتركة لجماعات المعارضة عن الكارثة التي عمّت سورية بعد عام 2011. وفقًا لمنطقهم، كان يجب أن يكون الشعب السوري حرًا في التظاهر والتحرّك ضد الدكتاتورية القمعية، وكان من الظلم مطالبتهم بالصمت، وبتحمّل المعاناة من الدكتاتورية وسوء المعاملة إلى الأبد” [2]. يمكن للمرء أن يجادل، بالطبع، بأن الشعب السوري كان يجب أن يكون حرًا تمامًا في التظاهر ضد نظامه، تمامًا كما هو الحال في الديمقراطيات (حيث توجد حدود معينة لحرية التظاهر). لكن في ظل الدكتاتورية السورية، وهي التي تقضي جسديًا حتى على أعضاء النخبة عندما يكون ولاؤهم موضع شك، فإن مثل هذه الحرية المزعومة تأتي بتكلفة باهظة في الأرواح البشرية. لذلك يعتمد الأمر أيضًا على الأهمية التي يعلّقها المرء على حياة الإنسان. فإذا كان المرء لا يهتمّ كثيرًا بالعدد الهائل من الضحايا الذين تسببت فيهم هذه الثورة (والتي قارنها البعض حتى بالثورة الفرنسية الدموية 1789-1799، التي أطاحت بالملكية الفرنسية)، فقد يستمر في تنفيذ المبادئ الأساسية للثورة من دون هوادة، من خلال محاولة إسقاط نظام الأسد (وإن كان ذلك على جثث أشخاص آخرين).

ينطبق الأمر نفسه على الدول الأجنبية التي تريد التدخل في سورية، من دون أخذ النتائج المتوقعة في الحسبان، لأنه يجعلها “تشعر بالرضا” من الناحية السياسية، بحجة أنها تساعد الشعب السوري (إلى جانب خدمة مصالحها الاستراتيجية المفترضة)، حتى لو تبين أن النتيجة كانت نصف مليون قتيل، وأكثر من عشرة ملايين لاجئ، وبلد مدمر. يجادل معارضو النظام عمومًا بأنهم ليسوا هم من تسبب في كل هذه المشاكل، وإنما النظام هو من سببها. بعد كل شيء، لم يفعلوا أكثر من محاولة إطاحة النظام الرهيب هذا، الذي قاوم “بعناد” إطاحته، إذ لم يكن الرئيس بشار الأسد مستعدًا للتوقيع على مذكرة الإعدام الخاصة به [3].

حجتي هي أن القيام بثورة إنما يكون مثمرًا، إذا كانت هناك فرصة جيدة للوصول إلى نتائج إيجابية، وإنْ كلفت بعض الضحايا. لكن كثيرًا من الضحايا لم يُسألوا قط هل كانوا يريدون المشاركة في الثورة السورية أم لا. لم تؤد الثورة السورية إلى أي نتائج إيجابية على الإطلاق، ولم تتم إطاحة النظام البعثي مثل النظام الملكي الفرنسي. كان فشل الثورة السورية متوقعًا إلى حد كبير، لكن أولئك الذين توقعوا قدرة بشار الأسد القوية على النجاة صُنّفوا أحيانًا بشكل غير عادل على أنهم “مؤيدو النظام”.

وفي الحالة النظرية التي كان يمكن فيها للقوى الإسلامية، مثل جيش الإسلام، أن تفتح/ تغزو دمشق، فهي بالتأكيد لم تكن لتؤسس نظامًا ديمقراطيًا. لا توجد حاليًا أي ديمقراطية في الشمال الغربي، الذي تحتله هيئة تحرير الشام الإسلامية، ولا في الشمال الشرقي، الذي تسيطر عليه “قوات سوريا الديمقراطية” الاستبدادية، وذات الغالبية الكردية*. المناطق الشمالية الأخرى التي تسيطر عليها فصائل الجيش الوطني السوري (الجيش السوري الحر سابقًا)، بدعم من تركيا، بشكل عام لها ميزان مختلف تمامًا وغير إسلامي.

لا شك في أن الكلام أسهل بكثير من الفعل، لكن كان من الأفضل انتظار “الفرصة المناسبة”، ومثل هذه الفرصة كانت موجودة فقط من داخل النظام نفسه. وكان الانقلاب الداخلي سيكون خطيرًا للغاية على مرتكبيه ويصعب تنفيذه. ومع ذلك، فإن انتظار “اللحظة المناسبة”، حتى لو بدا ذلك على أنها “إلى الأبد”، كان أفضل من “فقدان الصبر” والوصول إلى ما وصلنا إليه. والامتناع عن القيام بثورة أو مواصلتها، بسبب الظروف السلبية القوية والعواقب التي يمكن التنبؤ بها، لا علاقة له بأي شكل من أشكال الجبن أو الافتقار إلى الشجاعة، بل بالبراغماتية والواقعية والنجاة/ البقاء حيًا.

دعمت كل من الدول الأجنبية والعربية جماعات المعارضة العسكرية المفضلة لديها، التي بدورها انقلبت أحيانًا ضد بعضها البعض. إن حقيقة وجود مركزين للعمليات العسكرية في الأردن وتركيا على التوالي، يوجهان دعمهما العسكري، لا يعني أن هناك أيضًا تنسيقًا فعالًا حقيقيًا بينهما، يقود إلى معارضة عسكرية موحدة على الجبهة.

فعل الروس ذلك في أيلول/ سبتمبر 2015، بناء على طلب من حكومة دمشق. لو تعرض النظام السوري لتهديدات خطيرة في وقت سابق، لكان من المرجح أن تتدخل روسيا في وقت أبكر، لأنها لا تريد أن تفقد أهم حليف لها في الشرق الأوسط. كثيرًا ما اشتكت جماعات المعارضة العسكرية من أنه لو لم تتدخل روسيا (وكذلك إيران وحزب الله)، لربما أسقطت النظام السوري؛ ربما كان هذا صحيحًا. وعدّوا هذا التدخل “غير عادل”. ومع ذلك، لو لم تكن تلك الجماعات المعارضة نفسها قد تلقت مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية من الخارج، فلن يكون لديها أدنى فرصة للصمود أمام النظام.

كان من الممكن أن يتسبب عدم تدخل الدول الأجنبية في أن تكون الحرب أقصر بكثير، مع عدد أقل بكثير من الضحايا.

من الأفضل ألا نفعل شيئًا، بدلًا من فعل الشيء الخطأ.

لا تخلق توقعات خاطئة بين الناس الذين تدعمهم، لأن هذا قد يشجع أفعالهم بطريقة غير واقعية، بناءً على التفكير الرغبوي، الذي لن يؤدي إلى هزيمتهم فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى أعداد هائلة من الوفيات والدمار واللاجئين غير الضرورية.

لا تدلي بتصريحات لا تتابعها كفاية، مثل ذكر ما يسمى بـ “الخطوط الحمراء”، من دون عواقب عند انتهاكها. صرّح الرئيس أوباما أنه إذا استخدم النظام السوري الأسلحة الكيمياوية، فهو يتجاوز الخط الأحمر. ولكن بمجرد حدوث ذلك، لم يتخذ الإجراء الذي اقترحه في وقت سابق. إن التهديد بالتدخل العسكري، وإن كان ضمنيًا فقط، وعدم تنفيذه، قوّض بشدة مصداقية الولايات المتحدة والدول الغربية بشكل عام. وإضافة إلى ذلك، أعطى النظام انطباعًا بأنه يمكن أن يفلت من أي عقاب تقريبًا.

لا تدلي بتصريحات لتحقيق مكاسب سياسية محلية ودولية متخيّلة، يمكنك أن تعرف مسبقًا أنك لن تنفذها عمليًا. في عدة مناسبات، دعا القادة الغربيون إلى فرض مناطق حظر طيران في سورية لحماية المعارضة والسكان من هجمات النظام الجوية، لكن لم ينفَّذ شيء منها. ويرجع ذلك جزئيًا إلى حقيقة أن فرض منطقة حظر الطيران ينطوي على مواجهة عسكرية مباشرة مع النظام السوري، وهو ما لم يكن لدى أي دولة غربية نيّة للقيام به (وبعد أيلول/ سبتمبر 2015 صار يعني أيضًا مواجهة عسكرية مع روسيا). كما تم اقتراح إنشاء ملاذات آمنة بشكل متكرر. ومع ذلك، فإن إنشاء ملاذ آمن في مكان ما في منطقة حدودية يعني احتلال الأراضي السورية، وبالتالي المواجهة العسكرية المباشرة مع النظام السوري. نتيجة لذلك، لم تفرض القوى الأجنبية ملاذات آمنة حقيقية أيضًا. وإذا أخذت تركيا وغيرها أجزاء من سورية، فلا يمكن عدّها “ملاذات آمنة”. كما دعا القادة الغربيون في مناسبات مختلفة إلى إنشاء وفرض ممرات إنسانية لمساعدة السكان على الوصول إلى المساعدات الغذائية. كما تبيّن أن هذا لم يكن ناجحًا لأسباب مماثلة.

لا تهاجم أو تتدخل عسكريًا في البلدان التي لا تشكل تهديدًا عسكريًا لبلدكم. النتائج دائمًا ما تكون كارثية. تعدّ أفغانستان وإيران والعراق والكويت وليبيا وسورية واليمن أمثلة واضحة على أن الأمور تسوء بطريقة كارثية، سواء من الناحية الاستراتيجية أو على السكان المعنيين خصوصًا.

لا يمكن فرض الديمقراطية بالقوة العسكرية [4].

عمومًا، إن قطع العلاقات الدبلوماسية ليس سبيلًا إلى حلّ الصراعات، لأنها تقطع إمكانات الاتصالات الدبلوماسية التي قد تسهم في المساعدة على إيجاد حل. وفي هذا الصدد، كان من الأفضل للبلدان المعنية أن تحافظ على هذه العلاقات (وهو ما فعلته بعض البلدان الأوروبية)، ربما على مستوى دبلوماسي أدنى، إن كان من الممكن عدّ ذلك أكثر ملاءمة. إنه لقَصرُ نظرٍ أن نعتقد بأن الاتصالات مع النظام السوري عبر المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية هي بديل كافٍ، من دون إجراء اتصالات دبلوماسية ثنائية في نفس الوقت. كان قطعها من الناحية السياسية أسهل بكثير من استعادتها.

الحوار وسيلة أساسية للمساعدة في حل الصراعات. وإن رفض أي حوار لا يساعد في حد ذاته على حل الصراع، حتى لو تبين أن هذا الحوار غير مثمر. ولا رفض إجراء اتصالات مع الأطراف الرئيسة في الصراع. إنها عمومًا خسارة للوقت الثمين. الحلول السياسية التي ربما كانت ممكنة خلال المراحل الأولى من الحرب، قد تصبح أكثر صعوبة أو مستحيلة في وقت لاحق، بعد إراقة مزيد من الدماء.

ليس البديل للحوار الفاشل بالضرورة هو الحرب، وبالتأكيد ليس بديلًا إذا كانت احتمالات كسب مثل هذه الحرب غير واقعية، وإذا كانت هذه الحرب ستخلق مزيدًا من الكوارث.

أسهم كثير من السياسيين الغربيين والعرب بشكل غير مباشر في استمرار الحرب، بكل نتائجها من ضحايا ولاجئين ودمار، من خلال الاستمرار في الحفاظ على ما يسمّى بوجهات النظر الصحيحة أخلاقيًا وسياسيًا فيما يتعلق بالعدالة، ولكن من دون توفير الوسائل اللازمة للمساعدة في تحقيق أهدافهم العادلة. أكد كثيرون أنهم يريدون مساعدة المعارضة السورية، لكن ما يسمى بالصواب الأخلاقي في الواقع اكتسبَ بعدًا غير أخلاقي، من خلال الرغبة في الحفاظ على المبادئ. من خلال عدم كون الجهات الفاعلة هذه عملية/ براغماتية بما يكفي لتحقيق مبادئها المعلنة، ضمنت استمرار إراقة الدماء والتدمير متعدد الأبعاد، “عوضًا عن الحكم الأفضل/ عن غير قصد”. فالموقف العملي، الذي كان يمكن أن يساعد في التوصل إلى حل سياسي، كان يمكن عدّه ذا قيمة أخلاقية أعلى من المواقف السياسية التي ربما كانت أخلاقية من الناحية النظرية، لكنها في الممارسة العملية لم تحقق أكثر من مجرد استمرار الحرب الدموية بكل ضحاياها ولاجئيها ودمارها.

كي تعارض النظام السوري بشكل فعال، كان ينبغي أن تكون جماعات المعارضة موحدة؛ لكنها لم تكن كذلك. إن إصدار بيانات عن الموقف الموحد أمرٌ غير كافٍ. والتوحيد العسكري مطلوب في مثل هذه الحالة أيضًا. استغرقت جماعات المعارضة الرئيسة ما يقرب من خمسة أعوام للتوصل إلى موقف تفاوضي مشترك، صيِغ في إعلان الرياض الصادر في كانون الأول/ ديسمبر 2015. حيث ذكر البيان بشكل مثالي دعم جماعات المعارضة لـ “الديمقراطية، من خلال نظام تعددي يتم فيه تمثيل جميع الجماعات السورية، من ضمن ذلك الرجال والنساء، من دون تمييز أو إقصاء على أساس الدين أو المذهب أو الإثنية، وأن يكون قائمًا على مبادئ حقوق الإنسان والشفافية والمساءلة وسيادة القانون الذي يطبق على الجميع”. ومع ذلك، يجب أن يكون هناك أيضًا استعداد لتنفيذ هذه المبادئ الموحدة، بمجرد أن تتولى تلك الجماعات السلطة. لكن أحزابًا مثل الإخوان المسلمين وجيش الإسلام وأحرار الشام وقّعت على مبادئ تتعارض مع معتقداتها الأيديولوجية. لذلك، لا يمكن أن يتوَقَع منهم تنفيذ مبادئ الرياض، في حالة كانوا هم الأطراف الذين سيستولون على السلطة في دمشق. كانت المعضلة، بالطبع، أنه لا يمكن استبعاد الجماعات الإسلامية في ذلك الوقت، لأنها كانت من بين أقوى الجماعات.

26. بمجرد أن فقدت الثورة السورية طابعها العلماني في مناطق مختلفة، واتخذت تلوينًا إسلاميًا سنيًا، تضاءل بشكل كبير الدعم الكامن لها بين الأقليات الدينية.

إن فرصة خسارة الحرب تكون أكبر، عندما تكون الأطراف منفصلة عما هي عليه وهي متحدة. أوضح لي قادة ائتلاف المعارضة السورية في إسطنبول أنه في حين أن كثيرًا من الدول الغربية تتوقع أن تتوصل الجماعات المدنية والعسكرية العديدة إلى موقف موحد، يجب عليهم أيضًا أن يدركوا أنه في المؤسسات التي من المفترض أن تحترم مبدأ حرية التعبير، لا بد أن يكون هناك تنوع في الرأي. وهذا صحيح. كان هناك تنوع كبير في الرأي بين جماعات المعارضة، بعضها معتدل وعلماني، والبعض الآخر إسلامي تقليدي، والبعض الآخر إسلامي راديكالي. كانت معظم الجماعات عربية أو كردية أو تركمانية. ومع ذلك، في فترة الحرب، يجب توحيد الصفوف من أجل مواجهة الخصم بشكل مناسب.

إذا كنت لا تريد قبول اللاجئين، فلا تتدخل في الصراعات العسكرية في البلدان الأخرى التي لا تشكل تهديدًا لبلدك. يجب على الدول التي تدخلت عسكريًا في دول أخرى، كما هو الحال في سورية، مطيلة أمد الحرب هناك، أن تتحمل أيضًا مسؤولية قبول اللاجئين الذين دفعتهم مثل هذه الحرب بكثرة إلى بلدانهم.

لم تساعد العقوبات قط في تحقيق الأهداف التي تسعى لتحقيقها. من المفترض أن العقوبات المفروضة على النظام السوري تجبره على تغيير سلوكه، لكنها لم تحقق أي شيء إيجابي بعد، بل على العكس. من المفترض أن تؤذي بشار الأسد وأنصاره الأساسيين، لكنها بدلًا من إيذاء نخبة النظام السوري، تؤذي كثيرًا من السوريين الأبرياء الواقعين تحت سيطرته أكثر مما تؤذيه. وفي حالة فرض العقوبات، ينبغي أن تكون مشفوعة أيضًا بتوضيحات مفصلة عن كيفية رفع هذه العقوبات أو متى يمكن رفعها. وإذا كان هناك أي غموض في هذا الصدد، قد لا يمكن رفعها إطلاقًا، حتى لو كان الطرف الخاضع للعقوبات قد اتخذ مختلف التدابير المتعاونة. إن فرض العقوبات أسهل بكثير من رفعها.

كتب المصطفى بن المليح، الأمين العام المساعد السابق للأمم المتحدة والمنسق المقيم والمنسق الإنساني المؤقت في سورية، ما يلي عن العقوبات المفروضة بعد استقالته عام 2023: “السوريون أناس ماهرون ومبادرون/ مقدامون. إنهم بحاجة إلى استعادة الأنظمة الضرورية للحياة: المياه والطاقة والتنقل والإدارة المحلية الوظيفية، حتى يتمكنوا من استعادة حياتهم وإعادة بنائها. وهذه هي بالضبط النظم التي رفض المانحون دعمها، بحجة أنها ستفيد “النظام” وتشرعنه. كان من الواضح أننا، الأمم المتحدة وشركاءنا في المجال الإنساني، كان علينا أن نفعل أشياء أخرى غير ما فعلناه. لا يمكننا القيام بذلك إلا بدعم والتزام نفس الشركاء الذين فرضوا باستمرار قيودًا وخطوطًا حمراء على عملنا. تظل الخطوط الحمراء والقيود والعقوبات أداة سياسية، ولكن يمكن تخفيفها على الرغم من المواقف الرسمية المعلنة. يمكن أن يأتي الدعم المتزايد للتعافي من المانحين التقليديين والخليجيين. الأمر متروك لنا، نحن المجتمع الإنساني، لنظهر أننا على مستوى المهمة في علاقةٍ نعيد تحديدها مع شركائنا، من ضمن ذلك المؤسسات الوطنية” [5].

لن تساعد العقوبات التي تحظر إعادة الإعمار كثيرًا من المشردين في سورية. ولن تكون المساعدة الإنسانية كافية لتأمين سقف صلب يأويهم، وستمنع إعادة بناء المنازل والمشافي والصفوف الدراسية ومحطات معالجة المياه وتوليد الكهرباء وشبكات نقل الطاقة والطرق ومراكز الرعاية اليومية. إن عقوبات قيصر الأميركية موجهة ضد أي شخص أو شركة تعيد بناء مثل هذه المرافق [6].

لا يدعم جميع السوريين في الخارج عقوبات الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي المفروضة على سورية، لكن أهم منظمات المعارضة السورية، من ضمن ذلك ائتلاف المعارضة السورية، تدعمها. بالنسبة لهم، فإن أي محاولة قد تُسهم في سقوط نظام الأسد لها الأولوية، على ما يبدو، على مصير الشعب السوري داخل البلاد، الذين يمكن عدّهم في الواقع رهائن عند النظام.

قد لا يعود معظم اللاجئين السوريين الذين يعيشون في الخارج إلى بلادهم، ببساطة، لأنه لم يعد لديهم منازل يعودون إليها، ولن يكون هناك عمل كافٍ لكثير منهم بسبب الحالة الاقتصادية، ولا سيما بسبب انعدام الأمن بسبب التهديدات المحتملة لهم من جانب أجهزة الأمن (المخابرات). وقد بدأ كثيرون بالفعل حياة جديدة شبه دائمة في مكان آخر. النظام ليس حريصًا على إعادة إدخال أي شخص يعدّه معارضًا، ويمكنه الاستفادة من تحويلات السوريين في الخارج لعائلاتهم داخل البلاد. يبدو الأمر وكأنه حلقة مفرغة: تريد كثيرٌ من الدول في الخارج عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، لكنها ترفض المساهمة في إعادة إعمار سورية. ولكن ما دام اللاجئون لا يتمكنون من العودة إلى بلدهم، الذي ينبغي على الأقل إعادة بنائه إلى حد كبير، فإنهم سيحاولون البقاء في الخارج. ولذلك فإن رفع العقوبات التي تضر بالشعب السوري سيساعد في زيادة احتمالات عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم.

من الأفضل أن تفشل المفاوضات بدلًا من حرب فاشلة [7]. ويجب تجنب “المواقف غير الواقعية” أثناء المفاوضات، وإن كانت الآراء تختلف حول ما هو “غير واقعي”. الطرف الذي يعتقد أنه سينتصر في الحرب لا يريد التفاوض بشكل عام. والطرف المقدّر له أن يخسر الحرب يميل إلى أن يكون أكثر استعدادًا للتفاوض. في الحالة السورية، تريد أحزاب المعارضة الأضعف التفاوض على أساس مبدأ أن النظام الأقوى يجب أن يتنحى في نهاية المفاوضات، مع وجوب محاكمته، وتقديم كل من تلطخ أيديهم بالدماء إلى العدالة. لقد تبين أن هذا سيناريو غير واقعي تمامًا [8].

إذا طلب الطرف الأضعف “الكثير” خلال المفاوضات، فإنه يخاطر بأن ينتهي به المطاف بأقل مما بدأ به المفاوضات. ولكن بمجرد أن يتمكن الطرف الأضعف من قلب الطاولة، ويصبح الطرف الأقوى، فإنه لا يريد التفاوض بعد الآن مع الطرف الذي فقد مركزه المهيمن بالكامل.

ويبدو أن الفرضية القائلة بأن النظام السوري مستعد للتفاوض بجدية، بمجرد تعرضه لضغوط كافية، تبدو منطقية، لكن تبين أنها لا أساس لها من الصحة، عندما يتعلق الأمر بالواقع. بالنسبة إلى النظام (تقريبًا) إما كل شيء أو لا شيء. سوف يقبل على الأكثر بعض التغييرات الشكلية، فيما يتعلق بسلطاته. لا يمكن كسر إرادة النظام إلا بالهزيمة العسكرية، وبعد ذلك لن تكون المفاوضات (مع النظام) ضرورية (ولكن لا يزال يتعين إجراؤها بين مجموعات المعارضة المتنافسة العديدة، ونتيجة لذلك لن تكون هناك نهاية واضحة في الأفق بعد).

وفي الحالة النظرية التي كان من الممكن أن يُهزَم النظام في دمشق، على سبيل المثال على يد جيش الإسلام الإسلامي، لم يكن هذا يعني أن النظام كان سيُهزم أيضًا في مناطق أخرى، مثل اللاذقية أو طرطوس أو حمص أو حلب. كان من الممكن أن يؤدي ذلك ببساطة إلى تقسيم سورية إلى مناطق نفوذ عسكرية مختلفة (أو نوع من الترقيع/ التنوع العسكري) عما هي عليه اليوم، وأن الحرب الأهلية كانت ستستمر لفترة أطول. لكن كل من حاول إطاحة النظام فشل.

خلص الخبير بالشأن السوري، ديفيد ليش، إلى أن النظام السوري “لا يُحبّ أن يُقال له ما يجب فعله، أو حتى أن يُقدَّم له مقترحًا بقوة”، ناهيك عن القوى الخارجية. وأن نظامي حافظ وبشار الأسد رفضا دائمًا تقديم تنازلات من موقف ضعف ملموس: لن يقدّما أي تنازلات إلا من موقع قوة ملموس[9]. لكن المشكلة هي أنه بعد عام 2011، لم يرغب بشار الأسد في التفاوض من موقع قوة نسبية أيضًا، على الأقل إذا كان ذلك قد يؤدي إلى تقاسم السلطة الحقيقية مع المعارضة. ومع ذلك، كان من الممكن أن تكون المفاوضات المتبادلة الخيار الأفضل، أو الأقل سوءًا، آخذين في الحسبان كل الوفيات والدمار.

وأشار البيان إلى “إنشاء هيئة حكم انتقالية يمكنها تهيئة بيئة محايدة يمكن أن يحدث فيها الانتقال. وهذا يعني أن مجلس الحكم الانتقالي سيمارس سلطات تنفيذية كاملة. ويمكن أن يشمل المجلس المذكور أعضاء الحكومة الحالية والمعارضة والجماعات الأخرى، وأن يتشكل على أساس القبول المتبادل/ التراضي”.

أصبح منصب الرئيس بشار الأسد والشخصيات الرئيسة لنظامه في “هيئة الحكم الانتقالية ذات السلطات التنفيذية الكاملة” على الفور نقطة خلاف رئيسة. صرّحت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية، بأن الرئيس الأسد لا يمكنه المشاركة في مثل هيئة الحكم الانتقالية هذه، في حين نفى لافروف، وزير الخارجية الروسي، ذلك. ورفضت المعارضة السورية بشكل عام بشدة أي دور للرئيس الأسد، حتى خلال “الفترة الانتقالية”. بالنسبة إلى النظام السوري نفسه، كان الرئيس الأسد هو الذي سيبت في مثل هذه القضايا، وليس المعارضة، ولا الدول الأجنبية. أصرت كلينتون (مثل كثير من القادة السياسيين الآخرين) على أن بشار الأسد يجب أن يتنحى، لكن بيان جنيف لم يذكر أي شيء عن منصب الرئيس السوري، ولم يذكر تغيير النظام. لكن معظم الأطراف العربية والغربية أرادت أكثر مما ورد في بيان جنيف، ومن الواضح أن هذا كان له نتائج عكسية في البحث عن حل. تخيلت جماعات المعارضة أنها بمساعدة الأطراف الغربية والعربية يمكنها فرض “انتقال سياسي” (أصبح نوعًا من التعبير الملطف لتغيير النظام). لم تتخلَ معظم الحكومات العربية عن رغبتها السابقة في تغيير النظام إلا بعد أكثر من عشرة أعوام، بمجرد أن أصبح واضحًا أنها فشلت في إسقاط النظام.

بدأت معظم البلدان العربية التي حاولت دون جدوى إسقاط نظام الأسد بدعم عسكري ومالي هائل لجماعات المعارضة العسكرية السورية، في تغيير موقفها جذريًا في عام 2023، من خلال إعادة قبول سورية في جامعة الدول العربية، وبإعادة إقامة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، بحجة أن ذلك سيكون في مصلحتهما الإقليمية الاستراتيجية. بعد التفكير في الأمر، كانت سورية قبل الثورة أفضل بالنسبة إليهم، ولكن الآن سيكون من مصلحتهم المساعدة في إعادة بناء البلاد، طالما أن العقوبات لا تعيق كثيرًا مصالحهم في هذا الصدد.

خلص الخبير في الشأن السوري بينتي شيلر إلى أن النظام السوري عادة ما يواصل ممارسة “لعبة الانتظار”، ببساطة ينتظر حتى تنتهي الأزمة حتى يتغلب عليها، من أجل الاستمرار بعد ذلك كما فعل من قبل [10]. هذا ما حدث في هذه الحالة مرة أخرى. في النهاية، انتهى الأمر بالأطراف التي كانت تدعي الكثير خلال المراحل الأولى من الحرب السورية (من خلال خيوط واضحة خارج النصوص المتفق عليها)، بأقل مما كان يمكن أن تحققه خلاف ذلك. إن البقاء في حدود النصوص المتفق عليها ليس ضمانًا للنجاح، ولكن الخروج منها بالطريقة التي حدث بها، كان في هذه الحالة بالذات ضمانًا للفشل. لقد خلقت الأطراف الغربية والعربية التي قدمت هذه الادعاءات خارج معايير بيان جنيف انطباعًا خاطئًا للمعارضة بأن ادعاءاتها يمكن تحقيقها. وإضافة إلى ذلك، جعلت من المستحيل سياسيًا على جماعات المعارضة نفسها المطالبة بأقل مما يطالب به مؤيدوها الأجانب.

إن تنفيذ هذه الفقرات من قرار مجلس الأمن (2254) لم يكن ليضعف في الواقع الموقف العسكري للنظام، لأنّ التدابير المدرجة لم يكن لها أي قيمة عسكرية استراتيجية؛ إلا ربما بمعنى أن جماعات المعارضة العسكرية قد تستفيد أيضًا من الإمدادات الغذائية والطبية. إن قصف المدنيين والمرافق الطبية المدنية، على سبيل المثال، ليس له قيمة عسكرية استراتيجية، كون تلك المرافق مدنية فقط. لذلك، كان من السهل نسبيًا على النظام (والروس) البدء في تنفيذه.

في حالات، على سبيل المثال، أفغانستان والعراق وليبيا وسورية واليمن، لم يحدث هذا. واصلت البلدان المتدخلة في حالات مختلفة ببساطة سياساتها التدخلية في بلدان أخرى، تاركة البلدان السابقة بحالة خراب، من دون تحمل أي مسؤولية.

ألا ينبغي أن تكون هناك أيضًا أي مساءلة عن عدم إسقاط نظام الأسد، على الأقل في تلك الدول التي دعمت المعارضة السورية وسلّحتها من دون حماس؟ في الواقع، ساعدت الدول العربية التي دعمت المعارضة العسكرية بشكل كبير (ولكن ليس بشكل كافٍ) الحرب على الاستمرار في تدميرها. ويبدو أن بعض هذه الدول على استعداد الآن للمساهمة في إعادة إعمار سورية المدمرة، لأن من مصلحتها الإقليمية التعاون والتكيف مع نظام الأسد الذي نجا، رغم سعيها لإطاحته. لا يمكنهم اختيار جيرانهم، لكن عليهم التكيف والتعايش معهم. بالنسبة إلى البلدان البعيدة عن سورية، قد يكون هذا مختلفًا. إن البدء في إعادة إعمار سورية بمساعدة الدول العربية الإقليمية قد يوفر فرصة للتوصل إلى حل.

أشارت كثير من الدول العربية الاستبدادية الحاكمة إلى أنها تريد إصلاحًا سياسيًا في سورية، يشمل الإصلاحات الديمقراطية، في حين أنها لم تكن لتقبل أبدًا إصلاحات مماثلة في بلدانها. ولذلك، فإن سياساتها تستند بالأحرى إلى اعتبارات استراتيجية، لا إلى مبادئ ديمقراطية. كما طبقت بلدان غربية مختلفة معايير مزدوجة في هذا الصدد. ما طالبوا به النظامَ السوري لم يُطبَق بالمثل على معظم الأنظمة الاستبدادية العربية أو إسرائيل، لأن هؤلاء كانوا يُعدَّون حلفاء أو أصدقاء لهم.

إذا تبين أن الطريق الذي اختارته حركة ثورية ليس هو الطريق المؤدي إلى أهدافها المرجوة، فيجب البحث عن مسار آخر، بدلًا من الاستمرار في المسار كما كان متصورًا في الأصل. في هذا الصدد، ربما تكون المعارضة السورية قد غيرت مسارها منذ أعوام، بمجرد أن اتضح لهم أن الأسد سينتصر في الحرب (وإن لم يكن السلام)، وأن مطالبهم التفاوضية غير واقعية.

إن السخط المستمرّ على سلوك النظام السوري السيئ له ما يبرره تمامًا، ومن المؤكد أن المجتمع الدولي المزعوم لا يمكنه التزام الصمت حيال ذلك، فضلًا عن الضحايا الأبرياء الكثيرين. لكن هذا غير كافٍ في حد ذاته للتوصل إلى حل. إن النتائج هي التي تحسَب (الأمور بنتائجها)، ولا يكفي ما يسمّى بـ “النوايا الحسنة” والتصريحات التي تعبّر عن السخط.

في النهاية، ستميل معظم الدول إلى اتباع مصلحتها الاستراتيجية، سواء كانت تتعاطف مع مصير الشعب السوري أم لا.

بعد كل ما أريق من الدماء وما لحق من الدمار، لا أعتقد أنه من الممكن تحقيق حلٍ عادل بعد الآن، وإذا كان ثمة إمكانية لذلك، فيجب أن يكون على الأكثر حلًا وسطًا (تسوية)، لكن يبدو أن النظام السوري ليس على استعداد لتقديم أي حل وسط من هذا القبيل. و “الحل” العسكري ليس في الحقيقة حلًا. وقد تكون الحالة الراهنة تسوية في الوقت الراهن. لا يزال الاستقرار والازدهار الحقيقيان بعيدين عن الأنظار في المستقبل المنظور، لكن لا توجد قاعدة أبدية. ولا بد أن تحدث ثورة جديدة أو انقلاب عسكري مرة أخرى يومًا ما، وإن لم يكن هناك ما يضمن أن الأنظمة الوريثة ستحقق الاستقرار والازدهار المطلوبين، فضلًا عن الديمقراطية.

يتعين على السوريين أنفسهم التوصّل إلى حلٍّ سياسيّ، لكن هذا الحلّ يعتمد كثيرًا على من هو الأقوى.

الكاتب: نيكولاس فان دام السفير الهولندي

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

الاراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

Loading

الكاتب Majeed aboud

Majeed aboud

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة