افتتاحية: في المخاض العسير

في المخاض العسير
في تعليق لاذع يشبّه الكاتب السوري سمير سعيفان المؤتمرات المتكاثرة للمعارضة السورية بعود الثقاب الذي يشتعل مرة واحدة لينطفئ بعدها دون أي أثر يذكر.
والآن إذا صحّ ذلك- وهو صحيح إلى حدّ كبير- فإننا أمام اللاجدوى، سواءً أكان الأمر في أحادية الاشتعال أم في غياب التراكم المؤدي إلى ولادة شيء نوعي.
ومادام الأمر كذلك، فإن من الضروري الانتقال من الوصف مهما يكن دقيقاً إلى الأسباب العميقة لهذه الحال المرضية. ولأن الذهاب إلى الأسباب يحتاج إلى بحث مستفيض لا يمكن لافتتاحية واحدة أن تستغرقه فإننا سنحاول الدخول إلى هذا الميدان باختصار على الرغم من معرفتنا أن الاختصار يؤذي المضمون، على أمل أن نستوفي المطلوب لاحقاً بطريقة أو بأخرى.
إذن فلنبدأ بالقول:
تذهب الغالبية من القوى والشخصيات المعارضة إلى تحميل الذات المعارِضة المسؤولية الرئيسية وبخاصة الذات الديمقراطية الوطنية العلمانية، الأمر الذي نعتقد في تيار مواطنة أنه لا يتطابق مع الواقع الفعلي على الأرض في بعده المحلي والإقليمي والدولي، الذي أشرنا إليه قبل ثلاث سنوات تقريباً في ملفنا المعنون بـ “مراجعة نقدية أولية” والذي يضع المسؤولية الرئيسية على الواقع الموضوعي. وبهذا المعنى فإن السبب العميق لتوالد المؤتمرات وإخفاقها في آن معاً- بما في ذلك المآل الراهن والسياق الذي اتخذته الانتفاضة الشعبية- يعود إلى مجمل التعقيدات التي ذكرناها في أدبيات التيار منذ العام الأول؛ بدءاً من الانقسام العمودي في المجتمع طائفياً وقومياً وصولاً إلى المركزية الاستراتيجية لسورية أياً يكن حاكمها في القضية الفلسطينية.. إلخ.
بالاستناد إلى ما سبق يمكن تسليط الضوء اليوم على الواقع الراهن والأفق المنظور لنقول: إن الأسباب العميقة للإخفاقات المتكررة تعود إلى ما يلي:
ذهاب الوضع في سورية إلى الميدان العسكري وتوازن هذا الميدان محلياً وإقليمياً ودولياً، الأمر الذي ينعكس على النضال الاجتماعي- المدني والسياسي بشكل سلبي حتى إشعار آخر، وهذه السلبية تظهر بالسقف المحدود الذي ينشأ عن سلطات الأمر الواقع.
تعب الشعب من الحراك وهذا واضح ولا يحتاج إلى برهان ولا تغطي على ذلك كل الموضوعات الإنشائية عن الثورة والشعب العظيم.. إلخ. دون أن يعني ذلك أننا ننفي جدارة هذا الشعب، إن التاريخ يعلم أن عدم تحقق إنجاز فعلي خلال عقد من السنين يعني ببساطة أننا أمام جمود الوضع إن لم نقل أكثر من ذلك، ناهيك عن أن الشعوب ليست آلات ميكانيكية تتحرك طبقاً للضغط على بعض الأزرار، بل إن حركة الشعوب تشبه إلى حدّ كبير الموجة في صعودها نحو الذرى أو هبوطها نحو الوهاد. وعليه فإننا نعتقد أننا بحاجة إلى موجة جديدة كي نتجاوز الإخفاقات السابقة بما في ذلك موضوع المؤتمرات، ومادمنا بصدد الحراك الشعبي فإن من الواجب القول إن المراكز الأساسية من دمشق إلى حلب إلى الساحل مروراً بحمص وحماه هي اليوم ليست على أبواب انتفاضة جديدة على الرغم من كل بؤس الوضع الاقتصادي والمعاشي والسياسي والخدمي.. إلخ.
لقد أشرنا أعلاه إلى البعد الطائفي والقومي في سورية المتجسد في أحد وجوهه في هذه السلطة- الطغمة الطائفية البغيضة من طرف، والإسلام السياسي والعسكري من طرف آخر بما في ذلك الاحتقان الطائفي الشديد. لقد دفعت هذه السلطة ليس فقط منذ بداية الانتفاضة الشعبية بل منذ آذار 1963م وبخاصة منذ تشرين الثاني 1970م، مروراً بالعشرية السوداء 1976- 1986م. نقول: لقد دفعت البعد الطائفي الكامن إلى صراع طائفي بغيض متفجر إلى أقصى الحدود، ومما يزيد في الطين بلّة أن الجسم الرئيسي في مجمل الطوائف- عدا السنة العرب- التف حول السلطة الطغمة أو وقف على الحياد في الصراع الدامي انطلاقاً من التاريخ البعيد أو القريب أو من مخاوف حقيقية راهنة حتى لو كان بعضها مبالغاً فيه إلى حد الوهم، الأمر الذي يجعل من الضروري النظر بموضوعية إلى التململ الذي نشهد بواكيره الأولية في قاعدة السلطة- الطغمة الاجتماعية على قاعدة الوضع المعاشي والخدمي، هذا التململ المسقوف جداً نتيجة التلاحم العضوي حتى الآن على الأقل بين السلطة وقاعدتها الطائفية لأسباب نعتقد أنها غير مجهولة إذا أردنا الحقيقة. والأمر نفسه تقريباً في موقف سلطة الأمر الواقع في إدلب وشمال غرب سورية حيث الهيمنة للفصائل الإسلامية والقبلية المتطرفة والتي لها قاعدتها الاجتماعية حتى ولو كانت أقل تلاحماً مما سبق ذكره مع سلطة الامر الواقع.
وعلى الصعيد القومي ليس الأمر أحسن حالاً من الصعيد الطائفي على الرغم من كل الفروق بين الوضع في الجزيرة والأوضاع الأخرى في سورية. وفي كل الأحوال سنأتي لاحقاً إلى الأوضاع المذكورة أعلاه.
هجرة الفئات العمرية النشطة من الطبقة الوسطى- الشباب ببساطة- إلى خارج المركز السلطوي الذي ذكرناه بل إلى المنفى خارج سورية بشكل عام. هذه الهجرة التي تركت وراءها فراغاً كبيراً من العسير ردمه في ظل الجمود الراهن، ليس هذا فحسب بل إن هذه الهجرة جعلت كل المؤتمرات تقريباً عدا تلك التي عُقدت في عفرين وإعزاز نتاج الخارج في الاتجاه العام. ولأن الحراك أياً يكن اسمه، ثورة، انتفاضة، انفجار عفوي، مظاهرة، إضراب، اعتصام، عصيان مدني بحاجة إلى تجسيد محلي على الأرض، فإن ما نراه من إخفاقات ليس عصياً على الفهم. بعد انتقال مركز الحراك السلمي إلى الخارج عدا بعضها وعلى سبيل المثال نشاطات هيئة التنسيق السياسية.
والآن هل يعني كل ما سبق أن الذات السياسية والمدنية بريئة من المسؤولية؟ والجواب لا كبيرة بالتأكيد ولكن المقصود هو أن هذه المسؤولية تأتي ثانياً بعد الموضوعية وعلى قاعدتها. منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية قبل ما يزيد عن اثني عشر عاماً فهذه الذات مسؤولة بدورها عن التشظي والتعدد المرضي وعن كل العيوب التي يمكن أن تطال الذات في الأوقات الحرجة في التاريخ بدءاً من التقصير وانتهاءً بالأوهام والأحلام مروراً بالعناد والإنكار والاستعلاء والأنانية.. إلخ وصولاً إلى الاستقالة والاستسلام أو العجز عن إنتاج برنامج الحد الأدنى.
ومادمنا بصدد المخاض حتى لو كان عسيراً فهل الأفق أسود ومسدود إلى هذا الحدّ أم أن هنالك بعض النوافذ مهما تكن ضيقة؟ ولأننا نعتقد بأولوية الموضوع كما أشرنا أعلاه فإننا نعتقد أن الدورين الإقليمي والعالمي هما اللذان قد يفتحان بعض الآفاق أو يغلقانها في المدى المنظور. ولهذا فإن الشمال الغربي من سورية قد يفتح بعض الأمل في حال مواجهته للتطبيع بين الحكومة التركية والسلطة- الطغمة في حال تقدمه على الرغم من الصعوبات الحقيقية التي تحيط به، مثلما يمكن أن يكون للجزيرة أو البادية الشرقية قصب السبق إذا تطور الصراع بين التحالف الدولي من طرف وإيران وروسيا والسلطة الطغمة من طرف آخر. وهو الصراع الذي تلوح بوادره منذ الآن بين إيران. وهذا التحالف خاض جنباً إلى جنب مع تبادل الاتهامات بين روسيا وأمريكا حول الانتهاكات في الجو، لا بل يمكن الذهاب إلى أن الصراع ضد الكبتاغون وإيران في المنطقة الجنوبية قد يكون المدخل هو الآخر نحو فتح ثغرة في الجدار القائم اليوم، وبخاصة إذا تذكرنا الوضع الخاص لمحافظة السويداء وهو ما ظهر في بعض المظاهرات والاعتصام العام واعتصام المحامين الأخير. أضف إلى ذلك أن ثمة وضعاً في درعا ليس كليّ الخضوع للسلطة- الطغمة.
والآن هل كل ما سبق يعني أننا بذريعة الموضوعية والهيمنة الإقليمية والدولية والدينية والقبلية في الشمال الغربي لسورية، والقومية في الجزيرة نقول: هل يعني ذلك أن نقف مكتوفي الأيدي بانتظار الفرج؟
من الواضح أن الأمر ليس كذلك، ويهمنا أن نؤكد في هذا السياق على رفض الانتظار، بل أننا نقول:
بعيداً عن الخطابات الإنشائية والأوهام والأحلام حول الثورة المستمرة والشعب العظيم الراسخ في الميدان والذي لا يقبل بأنصاف الحلول نقول: إن صمود الشعب السوري وتضحياته الهائلة بل وكثرة المؤتمرات ذاتها إنما تدل على أن العجز- الموضوعي في جوهره- لم يدفع إلى الاستسلام بل إن المعارضة وبخاصة غير الرسمية منها ذاهبة وإن يكن بتردد وبطء نحو تهيئة السرج قبل ولادة الحصان الموضوعي، وهو في المثال الذي ما كان يضرب في سياق التاريخ حتى الآن. إلا للسخرية من الأفعال التي لا تستند على الوقائع بقوة بل على الرغبات والأحلام والاستعجال.
وعلى الرغم من المعنى الساخر الذي أشرنا إليه فإن تهيئة السرج ليست عملاً نافلاً، لأن الحراك الاجتماعي -نؤكد مرة أخرى على اختلاف اسمه- ضد سلطة طغمة غاشمة وفي ظل الوضع السوري المعقد أشد التعقيد على الأصعدة كافة، لا يمكن أن يثمر دون الوحدة السياسية والعسكرية -حال حضوره- والمدنية للفاعلين الاجتماعيين وهو الأمر المفتقد اليوم نتيجة، كما قلنا، للحالة المرضية التي تعيشها المعارضة السياسية والعسكرية والمدنية. وعلى النقيض من هذا الوضع يجب الاتفاق على برنامج الحد الأدنى وعلى الاستقلال الفعلي عن الأطراف الإقليمية والدولية مع نسج أفضل علاقة ممكنة مع الأصدقاء والحلفاء والمحايدين حال وجودهم، جنباً إلى جنب مع تحديد العدو بشكل واضح وصريح، والذي هو هذه السلطة الغاشمة وحلفاؤها وداعموها من إيران إلى الروس إلى سائر الميليشيات المعروفة وعلى رأسها حزب الله. ومما يزيد في أهمية تهيئة السرج بالمضمون الذي ذكرناه إمكانية انفتاح بعض النوافذ لأسباب إقليمية ودولية قد يكون من شأنها تفكيك المعارضة الرسمية واندماج بعضها في سياق العمل من أجل البديل الديمقراطي الوطني المستقل، والذي يعبر فعلاً عن الشعب السوري وعن الواقع العياني القائم الآن وفي الأفق المنظور.

تيار مواطنة
مكتب الإعلام. تاريخ النشر 11 أغسطس ، 2023

Loading

الكاتب Majeed aboud

Majeed aboud

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة