حوران وشرق الفرات ومستقبل سورية

 

بعد 2012 م، نشأ وضع خاص في مناطق شرق الفرات إثر تراجع السلطة عن مواقعها بفعل تمدد فصائل المعارضة في الرقة ودير الزور وريف حلب يمكن تعريفه بالاستقلال النسبي حتى 2014 م، حيث سيطر تنظيم داعش على المحافظات الثلاث وبقيت الحسكة بأغلب مناطقها خارج سيطرته.

منذ 2014 م وحتى 2017 م وإثر تشكيل التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب بدأت سيطرة داعش بالتراجع حتى معركة الباغوز آذار 2019 م، وهزيمتها العسكرية وتشتت قواها الأساسية ولجوئها لاحقاً إلى تكتيك “اضرب واهرب” حتى الآن، مما أتاح للتنظيم البقاء في منطقة البادية الشاسعة وكثيرة الكهوف وأماكن الاختباء، ثم الإغارة على قوافل جيش السلطة أو الميليشيا الرديفة. وخلال السنوات الاثنتي عشرة شكلت البنية العشائرية للجزيرة السورية، باستثناء مراكز المدن الرئيسية كدير الزور والرقة والحسكة وحلب، الحاضنة الشعبية لجميع قوى المعارضة التي توالت السيطرة على المنطقة، بدءاً من كتائب الجيش الحر إلى الفصائل الإسلامية بكل تنويعاتها وصولاً إلى داعش الذي قضى على جميع الفصائل لصالح سيادته المطلقة على المنطقة.

وفي مقابل سيطرة داعش عملت إيران والسلطة السورية منذ 2015 م على تجنيد ودعم بعض الميليشيات المعارضة لسيطرة داعش بداية ثم قسد تالياً على المنطقة بين البوكمال السورية والقائم العراقية واستمرت سيطرة الميليشيات الإيرانية على تلك المنطقة الهامة بسبب الطريق البري الدولي من بغداد حتى دمشق. ثم تكللت المساعي والسخاء الإيرانيين وحاجة الأهالي الماسة لسبل العيش في اجتذاب قسم من أهالي المنطقة إلى صفوف الميليشيا خاصة الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني بقيادة الحاج مهدي وتتركز في الميادين وتقدر بـ 3000 عنصر، تليها الميليشيات الأفغانية المدعومة من قبل الحرس الثوري الإيراني، وتتمركز في دير الزور، حيث تتواجد كلٌ من ميليشيا فاطميون وزينبيون في المربع الأمني الأفغاني قرب مركز الانطلاق بمدينة البوكمال، ويشرف عليهم عدد من القادة أبرزهم الحاج ذو الفقار ويبلغ تعداد هذه الميليشيا حوالي 4500 عنصر، ثم مليشيا “حرس القرى” والتي تتبع للحرس الثوري الإيراني بقيادة الحاج حسين، ويبلغ تعداد عناصرها نحو 1500 عنصراً في المنطقة الممتدة من بلدة البوليل وحتى مدينة صبيخان بريف دير الزور الشرقي، ومهمتها الرئيسية هي التواجد على طول النهر مقابل مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وأخيراً، مليشيات الدفاع الوطني، وهي ميليشيا موالية للأسد تشكلت تحت قيادة النظام السوري وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وجيش العشائر، وهي ميليشيا تابعة للنظام وترتبط بإيران، وتعمل على تعزيز مواقعها في صحراء دير الزور.

مقابل هذه القوى الداعمة للسلطة هناك القوى التي تعارض السلطة والوجود الإيراني وتتوزع ولاءاتها بين فصائل الجيش الوطني التابع لتركيا وداعش وبعض بقايا فصائل الجيش الحر التي تحاول البقاء خارج مظلة قسد وبنفس الوقت لا تستطيع الفكاك من هذه العلاقة.

وجدير بالذكر أن إيران تسعى خلال هذه المرحلة لإنشاء ميليشيا جديدة بعيدة شكلياً عن الميليشيات الخاضعة بشكل واضح لنفوذها تحت مسمى “المقاومة الشعبية” بغرض تظهيرها كمقاومة وطنية سورية في وجه الوجود الأمريكي.

أما قسد، الفصيل العسكري التابع للإدارة الذاتية، فهو الفصيل الأقوى والمسيطر حالياً في منطقة الجزيرة، ويمكن وصفه سياسياً بالفصيل “الهجين” وسنحاول أن نبين في سياق هذه الافتتاحية التناقضات المحيطة بقسد وبالإدارة الذاتية وبمسد لأهمية هذه الأطراف في رسم مستقبل الجزيرة وتالياً انعكاسها على مستقبل سورية كاملة. فبعد عشرات جولات الحوار السياسي بين السلطة وممثلين عن الإدارة الذاتية، وفشل الإدارة في الحصول على أدنى تنازل من دمشق لصالح شيء من الحكم الذاتي أو المكسب القومي الكردي أو حتى الاعتراف بوجود قومية ثانية لا يزال قادة الإدارة الذاتي يعتبرون السلطة السورية أقرب بألاف الأميال من الأتراك وبأن السلطة قد تدعمهم في مواجهة أي تدخل عسكري بري تركي في مناطق سيطرتهم، كما لا يزال التحالف بين قنديل والجمهورية الإسلامية الإيرانية قائماً على أرضية دعم طهران لحزب العمال الكردستاني في مواجهة الدولة التركية. وقد يجادل البعض بأن قسد يمكن أن ترضخ للإرادة الامريكية، وهذا شكلياً صحيح، وخاطئ فعلياً؛ فقيادات قنديل تنظر إلى الإدارات الأمريكية منذ 1984 م كداعمة لتركيا كدولة عضو في حلف الناتو ومعادية لقضية التحرر القومي الكردي، ومن منطق الآيديولوجيا الشيوعية أيضاَ لا تثق قيادات قنديل بالإدارة الأمريكية حتى ولو تحالفت معها مؤقتاً في وجه داعش وينطبق هذا التحليل أيضاً على تحالفها مع جمهورية إيران الإسلامية. هنا يمكن أن نثبت المعالم الرئيسية للإدارة الذاتية في سورية:

  • لا تثق بالأمريكان وتحالفها معهم مؤقت بسبب تصنيفهم حزب العمال كتنظيم إرهابي.
  • لا تثق بإيران وتتحالف معها في مواجهة تركيا.
  • لا تثق بالسلطة السورية وتتعامل معها كأهون الشرور- الإسلامية والتركية والسلطوية- ومستعدة للعمل معها إذا تعرضت لهجوم تركي.
  • لا تعطي الإدارة الذاتية العنصر العربي في الجزيرة إمكانية المشاركة الفاعلة في إدارة المنطقة، لا على مستوى الإدارات المدنية التابعة للإدارة الذاتية ولا على مستوى قيادات قسد ويبقى الظهور السياسي من خلال مسد المكان الأوحد الذي يظهر فيه العنصر العربي كفاعل لا حول له ولا قوة، فالواجهة السياسية- مسد- لا تحكم ولا تسيطر لا على الإدارة الذاتية ولا على قسد.
  • الكلمة العليا لقيادات العمال الكردستاني في قنديل وفي كل مناسبة كان الطلب من الإدارة الذاتية أن “تسورن” عملها في سورية كان تدخل قنديل لصالح القيادات التابعة لقنديل على حسابات القيادات السورية قولاً وفعلاً.
  • على ضوء ما سبق، لا يمكن التعويل على الإدارة الذاتية وجناحها العسكري “قسد” في معركة مع الميليشيا الإيرانية، إلا إذا حصل تغيير حقيقي على الخريطة العامة للصراع في سورية.

سيناريوات سورية:

تتأزم الأحوال المعيشية والاقتصادية والخدمية باطراد وعلى مدار الساعة وليس الأشهر والسنوات؛ فيتغير سعر الصرف وتتابع الليرة السورية انهيارها الكارثي وتتابع سياسات السلطة الاقتصادية الكارثية على معاش السوريين وتخرج حوران الجبل والسهل إلى الساحات والشوارع بحركة احتجاجية عالية النبرة لتكفَّ عن كونها مطالب اقتصادية ومعاشية ولتعلن صراحة أن المشكلة الحالية تتكثف بوجود وباستمرار هذه السلطة الطغمة. بالمقابل، لا تقدم السلطة للسوريين الواقعين تحت سلطتها حتى وعوداً بالانفراج، بل على العكس، يعلق رأس السلطة في حديثه الأخير مع سكاي نيوز جميع الكوارث على الدول الإقليمية التي دعمت انتفاضة السوريين ويطالبهم بدفع تكاليف إعادة الإعمار وتمويل إعادة اللاجئين وتمويل مكافحة الكبتاغون والصمت عن الحل السياسي، وهذا ما لن تقدمه الدول العربية بالمجان على ما يبدو.

وكما أشرنا، في تيار مواطنة في افتتاحياتنا السابقة فإن حلّ هذا الاستعصاء لن يكون إلا بتحرك دولي أمريكي وأوربي فاعل وأن توافق عليه روسيا تالياً، وهذا ما لن يحدث إلا بتغير موقف روسيا الحالي، سواءً بسبب تطورات الحرب في أوكرانيا أو بسبب يأسها من تجاوب السلطة السورية مع الحل الذي تراه مناسباً ويوافق عليه المجتمع الدولي وتدعمه الدول العربية لإجبار السلطة على الذهاب إلى هذا الحلّ السياسي، مما يفتح في المجال الأبواب لبداية الحلول الاقتصادية والمعيشية والخدمية ولعودة آمنة للاجئين والنازحين ولكشف مصير المفقودين والمغيبين قسرياً والمعتقلين وللبدء بعملية انتقالية تفضي إلى انتقال سياسي يستحق اسمه. وهذا كله ما يزال في علم الغيب، لكن ومن أجل إلقاء الضوء على بعض التحركات العسكرية الأمريكية ورد الفعل الإيراني، فإن الملاحظ فعلياً وجود تعزيزات للقواعد الأمريكية ومطالب واضحة من الأمريكان إلى العشائر العربية لإيجاد قوة عسكرية منظمة وقادرة على مواجهة الوجود العسكري لإيران وميليشياتها وللسلطة السورية في منطقة الجزيرة السورية وقطع طريق الإمداد البريّ الواصل من طهران إلى بغداد مروراً بدمشق حتى بيروت. والملاحظ أيضاً أن قسد قد رفضت- حتى الآن- الانضمام إلى هذا التحالف وبرفضها تكون قد حرمت هذا التحالف من الفصيل الأقوى والأكثر تمرساً وتنظيماً وقدرة على التعبئة في الجزيرة، ولكي تكتمل الصورة أكثر فإن تبعية قسد للإدارة الذاتية هو الأصل في رفضها للانضمام إلى هذا الحلف العسكري؛ فالإدارة الذاتية ما تزال محكومة من قبل قيادات قنديل التي يربطها تحالف مع الإيرانيين في مواجهة تركيا، وبالتالي يصبح مفهوماً رفض الإدارة الذاتية لمحاربة الميليشيا الإيرانية في سوريا. والاستنتاج الأقرب للواقعية سيكون أن هذا التحالف سيكون محدوداً، ما لم تظهر عوامل ضعف شديدة في صورة السلطة وبالتالي تعكس نفسها على انقسامات الجزيرة السورية وتجعل الرهان على قوة السلطة وحلفائها خاسرة، مما سيعزز احتمال نشوء هذا التحالف بقوة حقيقية وبقدرة على مواجهة الوجود الإيراني والسلطوي بفعالية حاسمة.

إذن، نحن نرى الآن وجود احتمالين ويبدو أن الأشهر القليلة القادمة ستتكشف عن أكثرها واقعية أو عن عدمه:

الاحتمال الأول، يتعلق بانهيارات أمنية واسعة في مناطق سيطرة السلطة بدءاً من الجنوب ووصولاً إلى حماه وحمص وحلب، وتبقى مناطق الساحل خارج هذا الحراك الفعلي، وإن كنا نرجح ظهور أصوات تململ واحتجاج لا ترقى للفعل المباشر في الساحات.

على مدار الاثنتي عشرة عاماً المنصرمة، شكل الدعم المالي الإيراني واللوجستي الروسي روافع دعم للسلطة، واحتمال تقديم هذه المساعدات بات ضعيفاً جداً في ظل الأزمات التي يعيشها الروس والإيرانيون. وفي حال غاب الحراك الشعبي ستظهر أزمات أمنية عامة وبالتالي سنشهد انتشار الجريمة المنظمة والظرفية، وبغياب أي تدخل للسلطة من أجل وقفها بسبب عجزها، مما سيدخل البلاد في حالة من التفجر والمجازر واحتمال انتقال كرة النار إلى دول الجوار كلبنان والعراق.. إلخ فهل سيقف المجتمع الدولي حينها متفرجاً؟!

الاحتمال الثاني، أن تبادر السلطة إلى تقديم بعض التنازلات لمجموعة المتابعة العربية وأن تقدم السعودية والإمارات العربية بعض الدعم المالي، مما سينعكس في تحسن طفيف على الملفات المعيشية والخدمية ومما سيعطي السلطة وقتاً إضافياً ليكتشف العرب للمرة الألف أن السلطة عاجزة عن الإيفاء بوعودها والتزاماتها. لكن ومن خلال تحليلنا وفهمنا لعقلية السلطة، لن يتم استخدام هذه الأموال في تخفيف الازمات العامة بل ستذهب النسبة الأكبر إلى خدمة السلطة وأدواتها الأهم الجيش والأمن، وبالمحصلة سيجد السوريون أنفسهم أمام الاحتمال الأول.

لا يشي الاحتمالان بحلّ قريب، ولنفس الأسباب أيضاً لا يبعدان الحل كثيراً، فجميع الأطراف المتدخلة في سورية مأزومة، خاصة السلطة وحلفائها، لكن الحلّ بحاجة لعاملين حاسمين؛ الإرادة الدولية الفاعلة والمخلصة، والشارع الوطني السوري الذي بيده أن يجعل التدخل الخارجي يفضي إلى أحد احتمالين، احتمال مرغوب يتمثل في دولة ديمقراطية قوية أو احتمال يحمل كل أسباب فشله في دولة تقوم على طوائف وأقوام، ولنا فيما نشهد الآن في ساحات حوران الجبل والسهل بارقة أمل بسورية الدولة الديمقراطية التي نريد.

تيار مواطنة

مكتب الإعلام 23 آب/ أغسطس 2023

 

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة