حراك السويداء وكلمة سواء بين السوريين
حدد تيار مواطنة الانقسام العمودي داخل المجتمع السوري كأحد أهم عوامل الإخفاق في قيام وحدة وطنية حقيقية. هذا الانقسام بدا واضحاً منذ الأشهر الأولى لانتفاضة ٢٠١١ م وبقي قائماً طوال الاثني عشر عاماً المنصرمة. ونحن هنا، ولنقلها بمطلق الصراحة، لن نناقش سلوك السلطة- الطغمة، ولا إجرامها بحق السوريين من السنة أولاً ولا قمعها للمعارضين الآخرين ثانياً؛ بل إن غرضنا سيكون دعم حراك السويداء وأسباب عدم امتداد هذا الحراك إلى مناطق المعارضة، بل ونضيف بأننا لا نرى من السلطة وجمهورها سوى التعنت ورفض مطالب السوريين بالتغيير وقيام دولة ديموقراطية.
نعم، كانت الثورة على الغالب مقتصرة من الناحية الرئيسية على العرب السنة ولم تشارك القاعدة الشعبية للأقليات الدينية إلى جانب السنة كما يجب، واعتبر السنة بحق أن عدم مشاركة الأقليات هو أحد أهم أسباب عدم الانتصار على السلطة في حينه، مع ضرورة الإشارة السريعة للمظلومية السنية الناشئة عن اقتصار القمع الدموي على هذه الفئة.
الحلقة المفرغة تغذي نفسها عن طريق تكرار إلقاء مسؤولية الإخفاق على عدم انخراط الأقليات في الثورة ونسيان دور الإسلام السياسي عموماً، والقوى الإسلامية المتطرفة التي مازالت تعيد مقولات التكفير والتخوين والتي أثبتت الأحداث أنها لا تنتج سوى الإخفاق والهزيمة.
من نافل القول أيضاً أن هذا المنطق قد كرسته السلطة الطغمة خلال عقود، لكن الكارثة هنا أن المعارضة عموماً والإسلام السياسي خصوصاً قد تبنتها كقاعدة أساسية في التعاطي مع المعارضة المختلفة لزمن طويل؛ فالآخرون من وجهة نظر هؤلاء الإسلاميين غير مواطنين وبنفس الوقت يجب أن يشاركوا بالجهاد في وجه هذه السلطة وهذا تناقض منطقي بيّن ومخالف للوقائع التي تفقأ العين أيضاً؛ فالشعب السوري مكون من عربه وكرده وآشورييه وتركمانه، كما إنه يضم مختلف طوائفه وأديانه، ومن نافل القول أننا مع حرية الانتماء والاعتقاد بنفس الدرجة التي نرى ذلك الحق في عدم الانتماء أو الإيمان.
في هذا السياق، نسجل الملاحظات التالية على الإسلام السياسي:
أولاً، الإصرار على قيام دولة على أسس إسلامية وهو بالتالي نفي قيام دولة وطنية لكل السوريين، من هنا نلاحظ أن الإسلام السياسي لا يستطيع أن يقدم برنامجاً وطنياً قابلاً للحياة؛ وقابلية الحياة هنا تعني الإجماع الوطني على حقوق المواطنة وواجباتها لكل مكونات سورية الدينية والطائفية والقومية.
ثانياً، كل المشاريع التي قدمها الإسلام السياسي حتى الآن لا ترقى لقبول المجتمع الدولي لأنها ببساطة تتراوح بين البرامج الإسلامية المعتدلة كالإخوان المسلمين والبرامج الدينية الجهادية المتطرفة كالنصرة وداعش، وهذا السبب بالتحديد هو أحد أهم أسباب انحسار الدعم الدولي للثورة السورية منذ 2014 م.
ثالثاً، لم يقدم الإسلام السياسي حتى اللحظة أي مشروع عملي وحقيقي لتوحيد الفصائل الجهادية نفسها؛ فمنذ 2013 كان عدد تلك الفصائل بالمئات، وخاضت فيما بينها معارك دموية أدت إلى سيطرة جبهة النصرة بدايةً ثم سيطرة داعش لاحقاً، بالتالي فإن توحيد هذه الفصائل كان يتم بمنطق الغلبة وليس بمنطق الاتفاق والديمقراطية، وغابت مفاهيم وممارسات الحوكمة الرشيدة تماماً في مناطق سيطرته، وهذا ما نشاهده في كل مناطق سيطرة قوى الأمر الواقع كما في الشمال وفي إدلب الآن، وكما شاهدناه حتى ٢٠١٨ م في الغوطة ودرعا.
وإذا تجاوزنا كل الكوارث التي أحاطت بالسوريين في البحث عن حل وعن بقعة ضوء فإننا نقول الآن: هذه السويداء قد بدأت حركة احتجاجية منذ أكثر من خمسة أسابيع، متجاوزة بعض نقاط الضعف التي عانت منها انتفاضة ٢٠١١ م، لأسباب تعود لعدم تعرضها للقمع الذي شهدته مناطق السنة المنتفضة ولوجود تنوع سياسي ديمقراطي وطني وعلماني أيضاً، ولمشاركة النساء الفعالة في ساحة الكرامة وأول تلك المطالب قيام نظام ديموقراطي تعددي على أسس فصل الدين عن الدولة، وحتى خطاب أعلى مرجعية دينية الشيخ الهجري قد عبر عنها بصراحة في خطابه عن الدولة العَلمانية كما يؤكده هتاف المنتفضين في شعار “الدين لله والوطن للجميع”.
ونحن ندرك أيضاً أن حراك الأقليات الدينية محكوم بعلاقات تاريخية متوترة بوسط الأكثرية وبالسلطة، وهذا له مبرراته الموضوعية، لكن يجب معالجة هذا التوتر بتفهم وتعاطف لا بعقلية الإنكار للتاريخ أو للخصوصية، فبناء دولة المواطنة ينطلق من الأفراد وخياراتهم الجمعية بدءاً من أصغر أقلية وحتى الأكثرية.
من هنا، نحن نطالب كل من يدعي أنه معارض حقيقي لبقاء السلطة الطغمة أن يقدم كل إمكانياته لدعم هذا الحراك، فبدون هذا الدعم سيبقى محلياً في محافظة واحدة صغيرة،مساحة وعدداً وموارداً، وبالتالي سيكون بمقدور السلطة التضييق على هذا الحراك وتفتيته وخنقه بالنتيجة أو إجباره على قبول الوصاية الخارجية وخسارة الشعب السوري لانتفاضة السويداء.
النقطة الثانية، تتعلق بالتكتيك السياسي؛ أي بإنشاء تحالفات مؤقته، ونقصد أنه عندما يتوفر الهدف المشترك المؤقت (هنا التغيير السياسي وفق القرار 2254)، وليس بالضرورة الهدف الاستراتيجي حول شكل ومضمون الدولة المنشود، عندها يجب دعمه بانتظار مرحلة صراع البرامج السياسية عبر صناديق الاقتراع، إذن من منطق التكتيك السياسي الصحيح يجب دعم هذا الحراك شعبياً، وبكل وسائل وأدوات الدعم الإعلامي والسياسي.
من الواضح حتى اللحظة أن هذا الدعم يقتصر على النخبة من الديموقراطيين السنة، أما الشارع السني العريض فإنه منقسم إلى أربع فئات؛ فئة متعاطفة ونقدر أنها غير قادرة على التعبير أو الحركة، وفئة صغيرة موالية للسلطة ومعادية للحراك، والفئة الثالثة الأكبر والأهم نسبياً المعارضة للسلطة، لكنها تنظر بعين عدم الرضا عن هذا الحراك وكأنها تقول بأن هذا الحراك الذي سببه (الجوع) قد اختطف ثورتها الأصلية، كما أن السويداء لم تقدم الدم والأرواح ولم تعانِ من الدمار والتهجير كما عانى جمهور الثورة “الحقيقي”، وبالتالي لا يحق لها أن تدعي شرف الثورة أو الانتفاضة أما الفئة الرابعة فهي الفئة الرمادية التي ستتحدد مواقفها غالباً في لحظة حسم الصراع.
إذن نحن نرى المشكلة الآن في اصطفاف نسبة مهمة من جمهور المعارضة السنية الذي لا يولي أي أهمية للاحتجاج في صفوف الأقليات ولا ترى أي قيمة لحراكها وحقوقها.
نحن في تيار مواطنة نرى إن الدعم يجب أن يكون من هذا الشارع السني العريض بالذات لأنه يعني تغيراً في آليات العمل السياسي وقطعاً مع منطق الإسلام السياسي وبناء الدولة على أسس وطنية. ويجب أن يكون الدعم من هذا الشارع، وليس فقط من النخبة، على الرغم من أن دعم هذه النخبة كان مميزاً وفي أحسن حالاته، ونحن ندرك جيداً ضيق ذات يد هذا الشارع، إن كان في دمشق أو حماه أو حلب الرازخة تحت سيطرة السلطة، لكننا لا نعتقد أن الصعوبات نفسها قائمة في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة وهي مناطق نعتقد بقدرتها على التظاهر والتأييد والدعم اللائق بمعارضة وطنية في إدلب وريف حلب والجزيرة السورية ودول الشتات لأنها ببساطة خارج سطوة قمع السلطة، بالتالي لا تفسير لعدم تأييدها لحراك السويداء سوى منع قادة القوى الإسلامية لهذا التأييد.
النقطة الأخيرة، إن سيطرة الإسلام السياسي عموماً على الشارع السني المعارض هو ما يفسر افتقار النخب السنية الديمقراطية للشارع العريض، وبالتالي يحق لنا أن نستنتج أن هذه النخبة السنية السورية بحاجة إلى أن تحقق تفوقاً على مجموعات الإسلام الجهادي المتطرف والمعتدل والرخو على حدّ سواء، وإلا سيبقى الشارع السني منقسماً بين أقلية تدعم السلطة من جهة وأكثرية تدعم الإسلام السياسي بتلاوينه المختلفة من جهة أخرى، وهذا ما سيفقد سورية الحامل الاجتماعي الأوسع أو الحاضنة الأكبر على المستوى الوطني لملاقاة أي تغيير مقبل.
أن تبقى غالبية السوريين من العرب السنة، إلى حين، خارج الفعل الديمقراطي الوطني، يشكل معضلة على المستوى الوطني وعلى العلاقة مع المجتمع الدولي وقد يقود إلى مزيد من التفتت المناطقي، عندها يحق لنا القول أن (أم الصبي) ماتزال تبحث عن الهدف من ثورتها عند القوى السياسية الفئوية المعادية لبناء الدولة على أسس المواطنة والمساواة.
تيار مواطنة
مكتب الإعلام 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2023