اليوم التالي في المنطقة
كثر الحديث عن اليوم التالي في غزة بعد مرور ثلاثة أشهر على بدء حرب حماس-إسرائيل، ولا يزال النقاش فيها مستمراً، خاصة وأن طبول الحرب أو صواريخها وطائراتها العادية والمسيرة لم تتوقف بعد. ويبدو أن الصراع في غزة تزامن مع عدة تطورات في المنطقة، لا تربطها بالضرورة به علاقة سببية، وطبعاً لا يمكن عزلها عن الصراعات الدولية، وهذا يخص أيضاً اليوم التالي في المنطقة.
حتى فترة قريبة كان الخطاب العربي”الوطني” السائد هو ذلك الذي يعتبر القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب في نضالهم القومي/الوطني، الأمر الذي يعني حكماً تأجيل أو على الأقل تهميش القضايا الجوهرية للشعوب العربية، قضايا الديموقراطية والحريات والتطور الاقتصادي والاجتماعي، وبهذا المعنى تستطيع الأنظمة ممارسة استبدادها وفسادها، دون حساب أو حتى نقاش، طالما هي مع “القضية المركزية”، و رغم عدم ثقة الشعوب بإخلاص الحكام لهذه القضية فإن وجدانهم الجمعي متركزٌ حولها ومشبع بها، بحيث إن أي اشتباك عابر مع العدو الإسرائيلي ينهي فوراً مشاعر التشكيك بالأنظمة، ويعيد إلى ساحة الشعور ماهو مشترك مع تلك الأنظمة، لكن الوضع تغير خاصة بعد أن حل مصطلح أنظمة “الصمود والتصدي” ثم”محور الممانعة”، والذي أصبح يضم دولةً غير عربية هي إيران، محل المصطلح القديم “القضية المركزية”.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل يعني الانتهاء من “القضية المركزية” التفرغ لحل المشاكل الجوهرية للشعوب العربية؟ بغض النظر عن الخوض في النقاش النظري فإن قيام مصر، الدولة العربية الأكبر والأهم، بإنهاء الصراع مع إسرائيل لم يجعلها قادرة على حل مشاكل شعبها، وعندما فتح الحراك الشعبي صيرورة لتغيير محتمل، سارع العسكر إلى قطعها والقضاء على جميع آليات التطور والتغيير، إذا لم نتحدث عن التراجع عن مكتسبات سابقة.
لا يجادل عاقلان في عدالة القضية الفلسطينية، وبعد تطورات امتدت خلال أكثر من سبعين عاماً، شملت حروباً وصراعات ونضالات سلمية ونقاشات، وقرارات أممية غير قابلة للتنفيذ أساساً بسبب التعنت الإسرائيلي، لكنها في النهاية جعلت مقبولاً بالنسبة للشرعية الدولية إقامة دولة فلسطينية على أراضي الضفة وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية، كل ذلك ترافق مع تحول تدريجي في المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف والعنصرية. ومع تحول تدريجي في طبيعة القضية الفلسطينية من قضية وطنية-قومية، حاملها هم الفلسطينيون وداعموهم العرب وآخرون، إلى قضية دينية حاملها بعض الفلسطينيين وداعمهم الإيراني، وقد تم ترسيخ هذا التغير والتوزع نتيجة لإضعاف السلطة الفلسطينية المعتدلة، والقضم التدريجي للأراضي الفلسطينية في الضفة من قبل حركة الاستيطان الصهيوني، بحيث لم يعد النضال السلمي في تلك المنطقة مجدياً، رغم تاريخه المجيد في انتفاضتي الحجارة السابقتين، وهكذا بدأ التحول للعسكرة بدعم من حماس وعلى طريقتها في غزة وامتد أيضاً جزئياً للضفة الغربية مركز السلطة الفلسطينية، وبالنسبة لإيران شكلت القضية الفلسطينية مرتكزاً هاماً في انتشار نفوذها وتوظيفه في الصراع مع أمريكا لصالحها كدولة دينية أكثر مما هي دولة وطنية.
السياق السابق يجعلنا نفهم، دون أن نوافق بالضرورة على عملية حماس في غزة، والتي قد تكون الاختبار الأخير للقوة في مواجهة إسرائيل، وقد تكون المفارقة أن نتائج تلك المواجهة، دون أن نناقشها عسكرياً و أخلاقياً الآن، هامة لدرجة أنها قد حرضت الوضع الدولي على إعادة الاهتمام بالحل القائم على الاعتراف بدولة فلسطينية، باعتباره الكفيل بعدم دفع المنطقة للاضطراب ولتغيرات غير محسوبة، كما حرضت الوضع العربي على التوقف عن إجراءات قبول ودمج إسرائيل في نسيج المنطقة قبل التوصل إلى حل حقيقي للمشكلة الفلسطينية، وأخيراً أحدثت هزة حقيقة في المجتمع الإسرائيلي اجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً، وطرحت السؤال الصعب على الإسرائيليين عن إمكانية استمرارهم في العيش بهدوء دون إيجاد حل للقضية الفلسطينية، لكن إجابات الإسرائيليين لم تتضح بعد ومن الصعب التصور أن الاستمرار في التطرف وتجاهل الحقوق الفلسطينية سيشكل الاستجابة الغالبة، وطبعاً هنا تدخل في الحساب مواقف الحلفاء الغربيين خاصة، ومواقف دول عظمى كالصين وروسيا ومواقف الدول العربية والموقف التركي.
بالمقابل فإن الحرب، التي لم تنته بعد، أكدت أن ما يسمى “محور المقاومة” ليس معنياً بخوض صراع مفتوح باعتباره حليفاً لحماس، وهذا ما عبرت عنه التصريحات المتناقضة لإيران وحماس، في جميع الأحوال إن شعار “وحدة الساحات” لا يتناسب مع أولويات مكونات هذا المحور في الحفاظ على الذات، وبالطبع لا يهم إن كان سلوك إيران و حزب الله يتعارض مع محتوى الخطابات النارية السابقة، أما النظام السوري كأحد مكونات محور الممانعة فهو ينطوي على قدر من الهشاشة العسكرية والسياسية لا تجعل أحداً يحسب له حساباً إلا بقدر ما يقدم من تسهيلات لإيران.
أخيراً وحتى يمكن تحقيق أفضل نتائج ممكنة في اليوم التالي، يجب أن نفهم أن لا نتائج ستتحقق بشكل آلي بعد وقف الحرب، ولابد من إجراء الإصلاح الضروري لمنظمة التحرير الفلسطينية ومن استنفار كل الإمكانيات وأساليب النضال السلمية الداعمة للقضية الفلسطينية، وهي ليست محدودة بل هي منتشرة على المستويين الدولي والشعبي، باعتبارها الطريق الممكن للوصول إلى الدولة الفلسطينية ابتداء من العمل داخل إسرائيل و في الأراضي الفلسطينية ومن ثم في جميع بقاع الأرض، وهي ستكتسب زخماً متصاعداً و تأييداً ودعماً، خاصة بعد الرفض العالمي الكبير لما قامت به إسرائيل في غزة من جرائم وإبادة، بالطبع أكثر بكثير من الرفض العالمي للعملية العسكرية التي قامت بها حماس.
وبالطبع قد يكون مبكراً استشراف نتائج اليوم التالي على لبنان لكن الموقف المتهافت من معركة غزة كان أضعف بكثير من أن تبرره الرطانة اللغوية لحسن نصر الله أو الاستقواء بالمرجعية الإلهية لحزب الله، كما أن قيام إسرائيل بقتل العديد من القيادات العسكرية من الصف الأول يحطم أيضاً تلك الصورة الموهومة التي كان الحزب قد كرسها، وستكون النتيجة تضاؤلاً لنفوذ ودور حزب الله وخطابه السياسي في لبنان، خاصة بعد خسائره البشرية التي دُفعت كثمن لمعركة وهمية عنوانها تخفيف الضغط عن حماس في غزة.
في سوريا يتزامن اليوم التالي مع فشل مسيرة التطبيع مع النظام السوري وربما بدء مسيرة معاكسة موحدة عربياً، وهذه المرة حتى من قبل الأطراف التي كانت قد سعت لمساعدة النظام بقصد تعويمه، وبالتعاضد مع الأوضاع الداخلية والأزمة الاقتصادية المتصاعدة بشكل سهمي، ومع الضغوطات الدولية المستمرة لعقابه على التسهيلات التي يقدمها لحكم الملالي الإيراني، لم يعد ممكناً تصور حل آخر في سورية غير بدء عملية الانتقال السياسي قبل وصول البلد إلى الانهيار الكامل.
تيار مواطنة
مكتب الإعلام 12 كانون ثاني/ يناير 2024