كلمة وفاء في رثاء ابن العم


في مطلع عام / 2002 / كنت قد خرجت للتو من السجن، كانت الأسئلة لا تزال تثار عندي بشدة حول جدوى الاستمرار في العمل السياسي بعد متغيرات هزت أركان ايماني والتزامي بالفكر الشيوعي… كانت مصادفة لافتة، وأعتقد أنها ساعدتني في حسم خياري، حين رأيت ابن العم لأول مرة، ليس كما عرفته من صور شبابه، بل عجوزاً شامخاً يلوح بيد بيضاء ناعمة، تحية لمن احتشدوا وبدأوا التصفيق له أمام مبنى محاكمته…. بدت لي تلك اليد المثقلة بشيخوخته وأمراضه المزمنة، وبسبعة عشر عاماً أمضاها وحيدا في سجنه الانفرادي، كأنها تحذرني، ولأقل تحذرنا جميعاً، من التردد والتراجع وترك الميدان لمصاصي الدماء والجلادين والفاسدين، وكأنها تدعوني، وتدعونا جميعاً، للتعاون والتآزر للاستمرار في الدفاع عن حقوق المقهورين ونصرة مخاض التغيير والحرية العسيرين.
ثمة من دفعتهم تجربة الاعتقال وشدة المعاناة الشخصية والعائلية الى الانكفاء ومغادرة السياسة، ربما أرهقتهم ظروف السجن، وربما تمكنت جلافة الجلاد من هزمهم وكسر ارادتهم، وهناك أيضاً من آمنوا، رغم شدة ما كابدوه تعذيباً واعتقالاً، بأهمية الاستمرار بدورهم السياسي في مقارعة كل أشكال الظلم والطغيان في بلد لم يترك الاستبداد المزمن فيه للعاملين بالشأن العام أبسط هامش أو فسحة.
بعد خروجه من الاعتقال الأخير، كان لقاؤنا الأول، والذي لم يتم في فضاء صاف، بل ملبد بالأسئلة حول ماهية الرؤية السياسية لابن العم وحقيقة مواقفه، وخاصة ما اثير عن رأيه بحزب العمل الشيوعي الذي كنت أنتمي اليه، لكن بدا لي بعد التعارف أنني أمام انسان ينتمي إلى أولئك الذين يمكن أن تذهب معهم بعيداً في طرح آرائك وأفكارك وكشف هواجسك، مع أنك تعرف أن بعض مواقفهم ربما يتعارض مع ما تذهب إليه.
كنت أحسب أن لقاء التعارف بيننا لن يثمر، وكنت أعتقد أن مساحة الحوار معه ستكون ضيقة إلى حد كبير، لكن الأمور ذهبت في مسار مختلف وبدا لي، أنني أقف أمام محاور يقاوم إغراء سلطة موقعه القيادي وينحني إصغاء وتفهماً، أو أمام محاور عنيد لكن مفيد، يثير عندك الكثير من التساؤلات ويحثك، طائعاً، على مراجعة أرائك أو تدقيقها!
من سوء حظي أنني لم أتعرف إلى رياض الترك كما ينبغي، لم يتجاوز عدد لقاءاتي أو دردشاتي معه أصابع اليدين، لكنها كانت كافية تماماً لبناء الثقة والاطمئنان، وأيضاً لتفكيك كل التخمينات المريضة بأن ما يعلنه هذا الإنسان هو محض كلام للتمايز والادعاء وتوخي الزعامة، وكانت كافية أيضاً، كي ينتزع مني كل الود والاحترام، وذاك الشعور بأنني أقف الى جانب شريك حقيقي في البحث عن الخلاص، لا تشوب صدقيته شائبة.
والحقيقة، ما أن يرد اسم رياض الترك حتى تحضر في ذهني صفتان بارزتان وأعتقد أنهما أشبه بميزتين ينفرد بهما هذا المناضل العتيق والعريق..
أولهما، أسبقيته في منح الخيار الديمقراطي الأولوية التي يستحقها كطريق للتغيير والخلاص، ومبادرته لتحرير هذا الخيار من مختلف الاشتراطات الوطنية والطبقية، ما يوحي بحلم جميل، أصبح اليوم هو هاجسي وحلمي أيضاً، عن مجتمع إنساني لا تمييز فيه ولا قهر بسبب خلاف في المنبت أو الجنس أو الرأي أو العقيدة أو الانتماء، وقتها كنا غارقين في مستنقعنا الأيديولوجي ونعيب على أنفسنا التحرر من أولوية المسألة الوطنية أو الطبقية كي نطلق العنان لقيم الديمقراطية ولمعارضة بلا قيود ضد أساليب الاستبداد وانعدام الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان.
واستدراكاً، لم يكن أمراً بسيطا أو عابرا عندي حين سارع ورفاقه الى استبدال التوصيف الشيوعي لحزبهم إلى توصيف ديمقراطي، كما لم يكن أمراً بسيطاً وعابراً أن يكون رياض الترك هو أول من يتخلى طوعاً عن منصبه كأمين عام لحزب ما.
صحيح أن ثمة ما قيل ويقال عن أن هذا التخلي شكلي وأن ابن العم يبقى الشخص الأقوى الذي يدير دفة القيادة في الحزب من وراء ستار الأسماء التي احتلت ذلك الموقع، لكن الصحيح أيضاً أن هذه البادرة هي بحد ذاتها تخلٍ، بل تخلٍ جريء يأتي على الضد من مناخ مفعم بتأليه الرموز وتقديس الزعامة الأبدية، مناخ لا يأبه أبداً بأية قيمة مهما تكن بسيطة، لتغليب العقل الجمعي والعمل الجماعي.
ثانيهما، روحه المفعمة تعاطفاً وانسانية، وما أقصده نابع من تجربتي الخاصة مع ابن العم، حين لم يتردد أو يبخل خلال فترة سجني الأخير، وبرغم سنه وأمراضه، في زيارة عائلتي دورياً ومتابعة أخبار زوجتي وابنتـي، مظهراً لهفة وروحاً تضامنية صادقة كنت أنا وهم في أمس الحاجة اليها.
ربما يصعب على المرء أن يقدر، إن لم يخض تجربة السجن، كيف تتقد روح السجين حين يهمس أهله في أذنه، بأن ثمة أحداً ما، لا يزال يهتم به وبهم ويتابع أوضاعهم، فكيف إن كان هذا الأحد، هو رياض الترك! وربما يصعب على المرء أن يدرك كيف كنا نعتصر ألماً كسجناء حينما نستشعر من أحاديث أهلنا، بعض ما يظهره الآخرون تجاههم، خوفاً أو تحسباً، من سلبية وجفاء!
والحال، لا يزال الى اليوم يشغلني السؤال، من أين استمد رياض الترك ذاك الاهتمام الخاص وأحياناً المربك في شؤون من دخلوا السجون أو المعتقلات، يحدوه تعاطف وتعاضد صادقان مع معاناة أسرهم وأهلهم؟ هل هي صفة اكتسبها مما كابده في سجنه ومن شعوره بأن الروح المعنوية لدى السجين تبقى مرتفعة ومتقدة، ما دام ثمة من يتذكره ويتذكر أسرته في الخارج؟
وسؤال المفارقة، أنى لرياض الترك أن يدرك دور هذه الصغائر في حياة السجناء وهو الذي عاش سبعة عشر عاماً وحيدا في زنزانة؟ أنى له أن يعرف بأن وصول خبر التعاطف البسيط من الخارج هو حدث مثير، يعيد صلة السجين بالعالم، ينفي عنه ذلك الإحساس المزمن بالترك والهجر، او ذاك الشعور بأن هناك من أدار ظهره له ونسيه؟
” لا، لا، لم يفت الأوان، ويجب أن نظل مؤمنين بأن الأوان لن يفوت مهما حصل، وبأنه سيظل ممكناً استدراك هذا البؤس وتجاوز كل العوائق والصعوبات على طريق الحرية والتغيير ورد المظالم الى أهلها” هي كلمات تحضر لتكمل عندي صورة ابن العم مشحونة، بروح من لا يكل أو يمل من زرع الأمل بالخلاص مهما اشتدت المحنة وحلك الظلام.

أكرم البني  12 / 1 / 2024

Loading

الكاتب wassim hassan

wassim hassan

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة