مقال لوليد جنبلاط نُشر باللغة الفرنسية في صحيفة “لوريون لوجور”
هذه ليست مثل الإعدامات الوحشية الفظيعة التي ارتكبها النازيون بحق “الكلاب الحمر” العمال الروس في كولخوز (المزارع الجماعية) أوكراني التي وصف فظائعها (الصحافي الإيطالي الشهير موريزيو) مالابارت في روايته “كابوت”. كلا. الأمر أكثر بشاعة. أكثر وحشية. أكثر بربرية. ما يجري في سوريا منذ أكثر من عامين، لا يوجد له مثيل في الأدب الحديث. الإنسان أصبح حقاً “كابوت”: مكسوراً، منتهياً ومحطماً. هذا التطوّر في الوحشية على كل حال، سمة من سمات النظام السوري، التي وصفها (الصحافي الفرنسي) ميشال سورا بشكل جيد في كتابه “دولة البربرية” … قبل أن يختبرها بنفسه.
لكن التركيز ليس حقاً على “جمالية الوحشية” إذا سمح لي استعارة هذا التشبيه من (الشاعر) أنطونين أرتو. كل الأنظمة الاستبدادية والشمولية تستخدمها، في لحظة أو أخرى. غنيّ عن التذكير في هذا الإطار بشهادات (الكاتب الروسي ألكسندر) سولجنستين أو (العالم والكاتب اليهودي الإيطالي) بريمو ليفي، أو أيضاً الصحافي التايلاندي (الذي اختفى مؤخراً) ديث بران، الذي نجا من الموت في مخيمات “الخمير الحمر”. إسرائيل، في جنين أو قانا، لم تفعل أفضل من ذلك، والشعب الفلسطيني في هذه الحالة كان الضحية المثالية. لكن رجال بشار الأسد ذهبوا في “صقل” الوحشية بعيداً، هذا كل شيء. وكنا نظن أن هذا العنف الممنهج الذي كان رمزاً للقرن العشرين المظلم، قد انتهى إلى غير رجعة. لكن هذه معرفة خاطئة لانجراف “الأقلوي” الذي لسوء الحظ ليس لديه ما يحسده في الرعب من القوميين. الحجم الحقيقي للأزمة السورية ليس في هذا الاستخدام غير المسبوق للعنف الأكثر من وحشي في وجه السكان المدنيين. لكنها في الاستجابة الانسانية على هذا العنف. لكن العالم قد اختار عن سابق تصور وتصميم إغماض عينيه. نادراً ما افتقر الغرب إلى التعاطف مع السكان المدنيين المتروكين في مواجهة وحشية دموية. لقد دفع الشعب الفلسطيني الأثمان في مواجهة إسرائيل. لكن الغياب الكامل للتعاطف من قبل ما نستمر عن خطأ على الأرجح بتسميته “المجتمع الدولي” تجاه الشعب السوري، يشكل فضيحة. خصوصاً من قبل الولايات المتحدة والرئيس باراك أوباما. هذا الذي لم يزعج نفسه حتى بالانحناء أمام ضريح ياسر عرفات أثناء زيارته الأخيرة لرام الله في إشارة عميقة إلى عدم احترام النضال التاريخي للشعب الفلسطيني- احتقار بطريقة وقحة منذ أكثر من عامين للمجزرة الوحشية بحق الشعب السوري، تحوّل إلى حثالة للإنسانية. يجب التساؤل عما إذا كان السيد أوباما قادر على التعاطف.
منذ عامين، وإدارة أوباما لا تقدم إلى الشعب السوري الا كلاماً فارغاً. والمهزلة كانت جيدة جداً في اسطنبول في نيسان الماضي، عندما وعد (وزير الخارجية الأميركية) جون كيري بتقديم سيارات مصفحة وأشكال أخرى من “معدات غير قاتلة” و”دفاعية”، في حين أن ما يحتاج الثوار إليه أكثر من أي وقت مضى، الى صواريخ مضادة للطائرات وللدروع .. طائرات بشار الأسد الحربية تجوب السماء السورية بكل حصانة. إنها غيرنيكا (القصف الجوي للمدينة الباسكية في اسبانيا في العام 1937) أو حتى درسدن (قصف الحلفاء للمدينة الألمانية في العام 1945) في كل دقيقة وفوق جميع أنحاء الأراضي السورية، وكل العالم يراقب هذا المنظر المشين. لقد قرر الغرب، في القرن العشرين، أن يدع طاغية يحاصر مدنه بضربات الصواريخ … دباباته تدمّر كل شيء، القرى والمدن؛ لقد دمّر او نهب التراث السوري الثقافي الاستثنائي؛ أصبح الملايين من السوريين اليوم من دون مأوى، مهجرين في الداخل أو إلى الدول المجاورة … الخطاب الأميركي مؤسف. يريدون أن تصل الأسلحة إلى “الأشخاص المناسبين”، بمعنى آخر، يجب تجنّب وقوعها بين أيدي “الجهاديين”، الاسم الآخر المستخدم للتعبير عن تنظيم “القاعدة”.
ما هذا الزيف؟ ما هذا النفاق في استخدام مثل هذا العذر؟ في وقت تُغرق فيه موسكو وطهران سوريا بالأسلحة من جميع الأنواع لصالح النظام، وحين يتدفّق الخبراء والمقاتلون من لبنان، العراق وإيران لتقديم المساعدة للأسد في المجزرة اليومية الفظيعة التي يرتكبها ضد الشعب السوري.
لقد تحوّلت سوريا إلى ساحة للصراع الأممي بين السنّة والشيعة، وفاقم التجاهل الغربي لما يدور على أرضها في تصاعد الدعوات الجهادية والتكفيرية المتبادلة، وتدفق الجهاديين من مختلف أصقاع العالم لتلبية “واجب الجهاد”. لم يقصّر هؤلاء في وحشيتهم فأصبحت مشاهد القتل والموت الطبق اليومي لأبناء الشعب السوري، وأصبحت الوحشية عملاً متبادلاً بين النظام و”الثوار الطارئين” القادمين من خارج البيئة والطبيعة السورية.
بعد أكثر من عامين على بداية الثورة، تستمر واشنطن في التألق من خلال غياب تعاطفها. فعوض مساعدتها الشعب السوري على مواجهة جلاده، تفضّل العودة إلى خطابها الأبدي حول “القاعدة”. فلنتحدث عن “القاعدة”: ما هي حقيقة؟ هل هي مجموعة أشخاص، منظمة أو شبكة دولية، حزب مدعوم من الطالبان الأفغان، مع دور يثير فضول الاستخبارات الباكستانية؟ ألم تستخدمها الولايات المتحدة نفسها ضد السوفيات في أفغانستان؟ أليس بشار الأسد بنفسه خلف هذه المنظمة الشهيرة المعروفة باسم “جبهة النصرة” التي تثير رعب جميع الديبلوماسيين الغربيين؟ ألم تتشكّل هذه المجموعة تحت مظلّة النظام السوري لمحاربة الأميركيين في العراق؟ ألم يلجأ بعض قادة الطالبان إلى إيران في بعض الأوقات؟ “النصرة” و”القاعدة”… العديد من الذرائع التي استخدمت لعدم مساعدة الشعب السوري. ليست سوى أكاذيب ومتاجرات من قبل القوى العظمى على أنقاض سوريا وعلى حساب الجثث المشوهة للناشطين السوريين. جميعهم لاعبون ساخرون وبلا رحمة. كل ذلك مقرف. هذه الكراهية من العالم للشعب السوري مقززة.
لكن قبل كل شيء، فإن الأزمة السورية هي أخلاقية. فباسم القيم المسماة “دولية”، والتي ينادي بها الغرب في أصقاع الدنيا منذ بدئها، تحرّك العالم من أجل بوسنة كوسوفو، صاح خوفاً على المسيحيين في تيمور الشرقية. منذ فترة قصيرة، أنقذ بنغازي ومعها الثورة الليبية من الطاغية. في سوريا، تغتصب النساء والأطفال ويذبحون يومياً، الصبية يُسحقون في آلالات تصنيع السكّر، الشبان يُعذَّبون ثم يشرّحون لكي تنتهي أعضاؤهم في السوق السوداء العالمية … لكن ذلك لا يبدو أنه يثير أحداً. السوريون متسولون، فاسقون، متروكون لمصيرهم …
بالمقابل، فمع احتمال ارتفاع قوة مضاربة الجهاديين على المدى البعيد، تستحق الآن “ترك الناس يموتون”. ما الذي بقي من هذا الواجب الشهير للتدخل لأسباب إنسانية الذي جعله الغرب هواية له في القرن الماضي عقب الصرخة الشهيرة التي أطلقتها جمعية “أطباء بلا حدود” وبرنار كوشنير؟ لا شيء.
إن الرسالة الضمنية التي يوجهها المجتمع الدولي إلى الشعب السوري، الذي لا تزال مذبحته تتواصل بشكل عال على جميع شاشات التلفزيون في العالم: “أنتم بشر غير جديرين بثقافتنا العالمية، ونحن في الواقع، أنصار النسبية. ثم، وفوق ذلك كله، انتم بعيدون جداً … عفواً، لكننا في الواقع، منافقون”. لكن سوريا في الواقع ليست بعيدة كما تعتقد أوروبا التي تحاول اليوم أن تنتهج موقفاً مشرفاً، لكنها تأخرت كثيراً، برفع حظرها عن الأسلحة. سوريا على أبواب أوروبا. إنها عملية برشلونة التي ابتعدت نهائياً عن روح أوروبا.
خلال رحلتي في نيسان الماضي إلى بلفاست (عاصمة ايرلندا) التي أمضيت فيها يومين، التقيت بقسّ ميثودي حصل على تفويض من السلطات البريطانية لمحاولة وضع حد نهائي للصراع بين البروتستانت والكاثوليك في ايرلندا الشمالية. كان عليه الإشراف على إنهاء السلاح غير الشرعي لـ “الشين فين” (الجناح السياسي للجيش الايرلندي الجمهوري المناهض للاستعمار البريطاني) بطريقة يصبح فيها “بعيداً عن المتناول وخارج الاستعمال”. سألته سريعاً ما يعني ذلك، فقال بكل تأديب “لا أستطيع أن أقول لك. لقد أقسمت على المحافظة على السر”.
لقد تأثرت جداً وأعجبت بهذا القسّ لدرجة أني تساءلت عما إذا كنا سنحصل يوماً في الشرق الأوسط على فرصة الحوار وتبادل الاحترام والثقة وتعلّم الصبر والسلام. لقد التزمت منذ ذلك اليوم تطبيق مبادئ هذا الرجل الاستثنائي في حياتي الشخصية وتعاليمي السياسية …
الإنسانية، كل ما يجعل منا رجالاً، تركض وراء خسارتها، وهذه المعركة الأخلاقية التاريخية التي تدور رحاها اليوم في سوريا، في حمص ودرعا، حلب، دمشق والسويداء وبانياس وفي القصير. العالم من جهته، أعمى لا محالة، مثل أبطال رواية خوسيه ساراماغو (الأديب البرتغالي صاحب رواية العمى) … ناهيك عن أنه على الرغم من هذه النهاية للإنسانية، فإن الشعب السوري سينتصر في نهاية المطاف ويتجاوز بالتالي عذاباته، الجهل والاحتقار. سينتقم عندها بالحياة من الفظائع التي ارتكبت بحق إبراهيم القاشوش الذي انتزعت له حنجرته، وحمزة الخطيب وأطفال درعا، ومئات الأطفال الذين سقطوا نتيجة الصراع، والأمهات اللاتي يعانين. الحق والكرامة ستحلان مكان القمع والديكتاتورية.
سيتذكر الشعب السوري أولئك الذين وقفوا إلى جانبه، والذين قمعوه. وكما كتب ساراماغو في رواية “الإله الأكتع” :”لا ينجو أحد، ولا يلعن أحد. خطيئة أن تفكّر هكذا. الخطيئة غير موجودة، فقط الموت والحياة موجودان”. والحياة في النهاية ستنتصر
23/7/2013