من ذاكرة التدريس ( عنتاب)

منوعات 0 admin
بعد أن استلمت الأشراف والإدارة بتكليف من التربية التركية على إحدى المدارس التي تضم كل المراحل التعليمية من (الإبتدائية والإعدادية والثانوية للبنات) والتي عدد الطالبات فيها حوالي 1600/ طالبة في كافة المراحل التعليمية ، وكنت أمارس التدريس لمادة الفلسفة لطالبات الثانوي المترافق مع إدارتي للمدرسة ، مستمتعا بالتدريس رغم تعبه ، بينما كنت أتعب جدا بالإدارة دون أي متعة..! ندرس المنهاج السوري المقرر لدى مناطق النظام ، كانت مادة (الموسيقى) من المواد المقررة في المنهاج السوري ، وكذلك في المنهاج التركي ،لذلك قررت أن أُدخل هذه المادة ضمن المنهاج أصولاً ، وبدأت بالبحث عن مدرس أو مدرسة حقيقية من حيث الشهادة والامكانية والمهارة في استعمال إحدى الآلات الموسيقية ، وبعد العديد من المقابلات، اخترت معلمة حاصلة على شهادة حقيقية من المعهد الموسيقي في دمشق وتجيد العزف على الأورغ ، وهي من منطقة الجولان السورية (نازحة) سابقا (لاجئة) لاحقا ، لكني فوجئت بهجوم من الإداريين ومن الكادر التدريسي ذكور وإناث ، لقيامي بهذا الفعل “المحرم شرعا” بالإضافة أن المعلمة ليست من مدينة حلب أوريفها!! دَعيت إلى اجتماع لكل الجهاز الاداري والتعليمي ، بحضور المنسق التركي المسؤول عن الارتباط بيننا وبين التربية التركية وبحضور مترجم، أخبرتهم ياحضرات يا زملاء أنا لم آتي ببدعة ولا ضلالة ، الموسيقى علم قائم بذاته وتصنف لغة الموسيقى عالميا من أرقى اللغات وبعدها لغة الرياضيات والفلسفة ..ألخ والمنح تأتي من الجامعات الأجنبية أيسر وأسهل للطالب الذي يتمتع أو لديه مهارة موسيقية ولو بسيطة ، نهض أستاذ اللغة العربية غاضبا صائحا /30/ مدرسة سورية في عنتاب لاتدرس الموسيقى ،وأنت تأتي لتفرضها هنا ، وبدأ غالبية الحضور بالكلام سوية رافضين إدخال هذه المادة الشيطانية للمدرسة ،مهاجمين معلمة الموسيقى الجالسة في زاوية الطاولة ،حاجبة وجهها بكفيها ، أنت .. ستعلمين العيب والحرام لطلابنا ، والمسكينة لاتنظر إلى وجوههم ، وتحاول ألاتسمع نباحهم، مما اضطرني لرفع صوتي والوقوف وكذلك المنسق التركي ، ساد الصمت ماعدا بعض الهسهسات، قلت قررت توزيع المادة في البرنامج اعتبارا من اليوم ، ومن يحب أن يعترض ليوجه كتاب خطي لي ، أو للتربية عن طريق المنسق ، طلب المنسق الإذن بالكلام ،قال: نحن نقدم في مدارسنا حفلات موسيقية في يوم الطفل العالمي، وكذلك في عيد الشباب ، وفي مناسبات عديدة لذلك التعلم على الغناء والآلة الموسيقية مهم ،لأننا نتمنى أن تشاركونا في هذه الاحتفالات ،وشكرا ، وغادر الغرفة مسرعا ممتعضاً.. لكن
واجهتني مشكلتين ،الأولى أن بعض الاساتذة والمعلمات ، يقولون للطالبات أن من يسمع أو يتعلم الموسيقى ،سيصب الله في أذنه يوم القيامة سائل ناري صلب ..!! والمشكلة الثانية هي الحصول على آلة موسيقية ،لأن مدير المدرسة التركي رفض السماح لنا باستعمال آلاتهم ،خشية تحطيمها وعدم إمكانيتنا على تعويضها ، وقد سمع من المنسق ما حصل في الاجتماع ، المشكلة الأولى السائل الناري جعل معلمة الموسيقى تخرج باكية من الصف ،بل جعل زوجها رغم حاجتهم الشديدة للراتب البسيط أن يقول لها اجلسي في البيت مع أطفالك .. تدخلت، زرت كل الصفوف موضحا لهم المسألة حول “السائل الناري الصلب ” بأنه كلام سنده باطل .. وأخيرا خيرتهم من تريد أن تحضر حصة الموسيقى باحترام مرحبا بها، أما من تخاف السائل الناري أو هي مقتنعة أن الموسيقى حرام ومياعة ، يمكنها الخروج من الصف والجلوس في صف آخر أو المسرح لتدرس أو الباحة ، قلت للمعلمة اصبري قليلا حتى أحضر آلة موسيقية ، وبهذا الشكل ننتقل من التعليم الموسيقي النظري الذي يسمح للبعض بالمشاغبة ،إلى التعليم العملي،وسترين كيف سيتغير وضع الطالبات، أما المشكلة الثانية الحصول على آلة.. كنت قد أخبرت بعض الأصدقاء بالموضوع ،وحاجتي إلى آلة الأورغ الكهربائية من أجل المدرسة ، تحمس بعض الأصدقاء الذين كانوا في عنتاب مشكورين، (غادرو إلى أوروبا لاحقا )، المهم تم جمع مبلغ جيد وكلف أحدهم بشرائه من اسطنبول .. أحضرت الآلة للمدرسة وبدأت معلمة الموسيقى تختار طلاب من كافة المراحل هم راغبين بالتعلم ،تدربهم على بعض من أغاني السيدة فيروز ، وموشحات حلبية لصباح فخري .. وخلال فترة بسيطة زاد عدد الطالبات الكبار والصغار ،وبدأت الغرفة تكتظ بهم ،والكل يريد أن يعزف ويغني ، وشاركتنا أحيانا فرقة تركية طلابية العزف على عدة آلات ،مما زاد حماس الطالبات ونسوا ” السائل الناري الصلب” الذي يصب في الأذن! ومن ثم شاركت مدرستنا في بعض الاحتفالات الرسمية بأغنية للسيدة فيروز وغيره .. وبقي المكبوتين الظلاميين أصحاب السائل الناري الصلب ، يدخلون الغرفة أثناء التدريب ،ليشاهدوا الطالبات وهن ينشدن ،بعيون جائعة حانقة ، وعندما أدخل يمرون من أمامي يستغفرون ويخرجون ..!
جمال الجميلي

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة