محاولة في قراءة الوضع الراهن 9/10/2014
محاولة في قراءة الوضع الراهن
خلفية ضرورية
لا بد من القول بداية أن مسار الثورة السورية ووعورة طريقها، منذ اللحظة الأولى لانطلاقها وتوسعها لتطال معظم الجغرافية السورية ثم تحولها إلى أزمة داخلية وإقليمية ودولية، جاء على خلفية التعقيدات الشديدة للوضع السوري من حيث الانقسام العمودي الحاد في الداخل السوري ما انعكس في علاقة جدلية متبادلة التأثير على انقسام دولي حاد في الموقف من الثورة السورية، وما انفك هذا الانقسام يزداد حدةً حتى يومنا هذا. يضاف إلى ذلك العنف البهيمي للسلطة السورية في التعامل مع الثورة الذي أدى إلى تحولها إلى الكفاح المسلح واستخدام العنف وتناميه بالتوازي مع تنامي عنف السلطة ليصل إلى ما نشهد الآن من عنف متطرف متمثلاً في أبشع صوره في سلوك تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام أو ما بات يعرف بتنظيم “داعش”. وكان من الواضح أن تردد المجتمع الدولي (ونقصد هنا العالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية) وتخاذله عن التدخل الفاعل في سورية سيؤدي إلى تفاقم الوضع والوصول بالضبط إلى ما يتخوف منه الغرب ويجعله متردداً في التدخل. كما كان من الواضح أن التدخل الدولي المباشر لن يحدث إلا إذا وجد العالم نفسه مضطراً أمام واحدة –أو أكثر- من الحالات التالية:
1- أن يكون هناك انتصار عسكري للسلطة في الأفق.
2- أن يكون هنالك انتصار عسكري لداعش وأمثالها في الأفق.
3- أن تستحيل السيطرة على مفاعيل الوضع السوري في دول الجوار.
4- أن تتفكك الدولة وتتحول الأوضاع إلى حرب أهلية بالمعنى الحرفي المباشر وبالأصالة لا بالوكالة.
5- أن تلوح في الأفق وتقوم على الأرض حرب سنية – شيعية بشكل أو بآخر.
6- أوضاع أخرى لم تكن مطروحة في أي يوم.
ولن نأتي بجديد لا يعرفه الجميع إذا قلنا: إن الوضع عشية بناء التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة والضربات الجوية على تنظيم داعش في العراق ثم سورية، يندرج ضمن الحالة الثالثة التي أدت إلى الحالة الثانية، أي خروج الوضع عن السيطرة في الجوار السوري الذي أدى إلى احتلال داعش لمساحات واسعة من العراق وسورية واستيلائه على كميات كبيرة من النفط والسلاح والمال.
عشية التحالف الدولي لمحاربة داعش
- إن السبب الرئيسي في عدم التدخل مباشرة في سورية، والذي هو عدم وجود البديل السوري الحقيقي للسلطة ولداعش وأمثالها والذي كان الذريعة الحاضرة تتم إدارة الظهر جزئيا له، وهذا ما حصل على الرغم من أن غياب هذا البديل يشكل المشكلة الأم الموازية لمشكلة السلطة وداعش. ولا بد من الإشارة إلى أنه بمجرد بدء التدخل ضد أي طرف كان لا بد أن يتطور بمفاعيله الذاتية باتجاه الأطراف الأخرى لاحقا ما دام الهدف هو اجتثاث الإرهاب وليس احتواؤه وهذا واضح في كل الحقول الأمر الذي يعني التحول لاحقا باتجاه السلطة وحلفائها ماداموا أحد أهم العوامل المولدة للإرهاب – بل هم الإرهاب بعينه أيضا. وللدليل على هذا يمكن النظر إلى مواقف السلطة وحلفائها (روسيا، إيران، حزب الله، الخ) فكلهم اليوم يعبرون عن نقدهم العلني السافر مع بعض القبول الخجول لدى البعض، لأنهم يعرفون جيدا أنهم الهدف التالي على قائمة مكافحة الإرهاب الذي سيطال الجميع: سلطة ومليشيات شيعية ودولا أيا تكن.
- دخلت في التحالف دول إقليمية مهمة (السعودية، الإمارات، الأردن، قطر وبدرجة أقل مصر)، ولا تزال تركيا مترددة أو محجمة عن تحديد شكل مشاركتها في التحالف والحملة على داعش، وتطالب بتحقيق شروطها قبل المشاركة. هنالك تناقضات في المواقف الخاصة بالأطراف الإقليمية المنضوية في التحالف الدولي من المسألة السورية، فالسعودية والأردن والإمارات تريد الحد من نفوذ الإسلاميين (تحديداً الأخوان المسلمين) على الأرض الآن وفي المستقبل، في المقابل فإن تركيا وقطر تدعمان الأخوان وسيؤدي التدخل التركي المباشر في سورية إلى تعزيز وجود التيارات الإسلامية غير المتطرفة على الأرض السورية ونفوذها في المعادلة السياسية القادمة. لكن الدول المذكورة (السعودية،تركيا،الأردن، قطر والإمارات) سوف تجد نفسها انطلاقا من الأهداف الرئيسية للحملة اليوم ولاحقا مضطرة إلى قدر كبير من التنسيق كي تحقق الأهداف لأنها تعرف أن أي خلاف حقيقي يمكن أن يشكل خطرا على الجميع. والمخاوف من الموقف السعودي والأردني المتوقعة لا معنى لها. واعتراضاتهما خافتة على الحملة الدولية في حال وجودها، لأن التحالف الدولي هو الأقوى وعلى سائر الأجندات الخاصة أن تجد لنفسها مكانا فيه.
- لا يزال موقف التيارات الإسلامية يتراوح بين الرفض للتحالف وضرب داعش وبين التحفظ على هذه الحملة بذريعة عدم استهدافها للسلطة جنباً إلى جنب مع داعش. وتعتقد هذه التيارات أن الإسلام السني بكل ألوان طيفه هو المستهدف من هذا التحالف، بينما يتم السكوت عن إرهاب الميليشيات الشيعية. كما أن قرار مجلس الأمن رقم /2178/ الخاص بمكافحة الإرهاب، لم يشر إلى إرهاب الميليشيات الشيعية، وإذا لم يتخذ الأمريكيون القرار المذكور مبرراً لضرب كل إرهاب بما فيه إرهاب السلطة السورية والإرهاب الشيعي، ولن يكون بالتالي التحالف مقبولاً من التيارات الإسلامية السنية، لأن الإرهاب الشيعي والسلطة سيقوى بضرب داعش.
- لا بد من أخذ تطور الموقف التركي بعين الاعتبار عندما يتعلق بكثير من القضايا وبخاصة في فهم موقف الإسلاميين، أي أن تدخل تركيا فعلياً على الأرض ومشاركتها المباشرة في التحالف من شأنه أن يؤدي إلى انقسام الإسلاميين أكثر فأكثر وتحول قسم كبير منهم إلى تأييد الحملة بالشروط التركية.
بخصوص الموقف التركي ومعركة كوباني/عين العرب
من الواضح أن اللوحة السياسية والعسكرية بالنسبة للتحالف الدولي تزداد تعقيداً في سورية على خلفية الموقف التركي من التحالف والدخول فيه، والضغط التركي من أجل تحقيق اشتراطاتها المسبقة والتي تتمثل بجوهرها في: أن يكون إسقاط سلطة الأسد هدفاً للتحالف عبر إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري المحاذي للحدود التركية تشكل منصة للانطلاق من أجل بناء بديل سوري لسلطة الأسد وداعش معاً، وساحةً لإبطال مفعول الخطر الكردي والمشروع الانفصالي الكردي بالنسبة إلى تركيا. وهذا ما يدفع الأتراك إلى التباطؤ في التدخل المباشر والوقوف على حدود كوباني متفرجين على تقدم داعش لاحتلالها، حتى ليمكن القول أن تركيا تريد سقوط كوباني لتنقذها هي حتى تكسر شوكة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني (PYD) وحزب العمال الكردستاني (PKK) معاً، لتكون المخلص من داعش بالنسبة للأكراد في سورية والقول لهم أن من يحميكم من التطرف هو تركيا وليس الـ PYD والـPKK أو التحالف الدولي. وينعكس هذا الموقف التركي على موقف التيارات الإسلامية ويجعلها مترددة وتحجم عن حسم موقفها من التحالف الدولي وضرب داعش، حتى يبدو أن التدخل التركي هو شرطها لقبول التحالف وصمام الأمان بالنسبة لها.
فما الذي يريده الأتراك من المنطقة العازلة؟ وما الذي يجعل الولايات المتحدة ترفض حتى الآن الموافقة عليها؟
من الواضح أن الأتراك لا يريدون موافقة التحالف الدولي على إقامة منطقة عازلة في الشمال فحسب، بل يريدون أيضاً أن تكون تركيا هي من يقيم المنطقة العازلة وأن تكون لها اليد الطولى والكلمة العليا فيها، وأن تكون منطقة عازلة وآمنة في آن معاً، بما يعنيه ذلك إبعاد الأسد وأسلحته كافة عن تهديد هذه المنطقة؛ أي حظر طيران ومدفعية وصورايخ وكل ما إلى ذلك، وجعلها مكاناً آمناً لبناء قدرات المعارضة السياسية والعسكرية المعتدلة ومنصة انطلاق لمحاربة الأسد وإسقاطه فيما بعد. ولهذا السبب تعتبر الكثير من فصائل المعارضة السياسية والعسكرية (وتحديداً الإسلامية غير النصرة وداعش طبعاً) أن الشروط التركية واقعية وتمثل تصحيحاً لوجهة التحالف الدولي وبوصلته، وضماناً لعدم تأهيل الأسد من نافذة محاربة الإرهاب.
ومن جهة أخرى، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر أن دخول الأتراك في التحالف بهذه الشروط سيعني عودة الإسلاميين من النافذة، لأن منطقةً عازلةً آمنةً لتركيا اليد الطولى فيها، يعني عودة الإسلاميين للسيطرة على الميدان في سورية، وظهور تركيا بمثابة حامي حمى الإسلام السنة في سورية، وهو ما لا تريده الولايات المتحدة الأمريكية (ومعها مصر والسعودية والإمارات والأردن)، لأنها لا تريد لأن يكون للإسلاميين الثقل الأساسي والأكبر في المعادلة السياسية والعسكرية في المستقبل.
ولهذه الأسباب أيضاً نرى أن إيران أعربت عن رفضها الشديد لأي دخول تركي على خط الصراع المباشر في سورية، لأنه سيكون حتماً في مواجهة سلطة الأسد بصورة مباشرة وخطوة أولى نحو إسقاطه، حتى أنها عرضت المساعدة على الأكراد في الدفاع عن كوباني وتحريرها من داعش، بما يعنيه ذلك تقوية للجناح المعادي لتركيا والقريب من إيران والأسد عند الأكراد.
وماذا بعد؟
إن لعبة عض الأصابع بين تركيا والتحالف الدولي، لن تنتهي على الأرجح بتركيع أحدهما للآخر، وإنما بالوصول إلى تسوية معينة بين الطرفين. فالتحالف الدولي لن يوافق إلاّ مضطراً على المنطقة العازلة؛ فالضربات الجوية مهمة لكنها لن تكون حاسمة في القضاء على داعش، ولا حتى في الحد من تمددها بصورة نوعية، فإذا تبين للولايات المتحدة الأمريكية أنها لن تنزل بقواتها على الأرض، وأن قوات عربية غير مجدية في سورية (في ظل امتناع مصر عن المشاركة في العمل العسكري وعدم فعالية قوات برية سعودية وإماراتية على الأرض السورية في مواجهة داعش، واقتصار نشاط الأردن على الجبهة الجنوبية)، وفي ظل عدم وجود قوات جاهزة وفاعلة للمعارضة السورية المعتدلة في مواجهة داعش في المدى القريب، فسيجد التحالف الدولي نفسه مضطراً للقبول بدخول عسكري تركي إلى سورية وإقامة منطقة آمنة، إذا تخلى الأتراك عن شرط إسقاط الأسد مباشرةً (وهذا ما سيحدث على الأرجح).
خلاصة القول، إن الحملة الدولية زعزعت مواقف كافة الأطراف بدءاً بالائتلاف الوطني، هيئة التنسيق وحزب الاتحاد الديمقراطي PYD، الفصائل الإسلامية السياسية والعسكرية (خارج داعش والنصرة وأخواتها)، وحتى الفصائل التي تصنف على أنها معتدلة كحزم وجبهة ثوار سورية، التي حاربت داعش والنصرة من قبل لكنها ترفض اليوم تقديم تنازل سياسي لصالح الحملة الدولية وهي مدركة أنها ستستفيد عسكرياً من إضعاف داعش والنصرة. لكن معركة القضاء على داعش ستكون طويلة، ونتائجها الإيجابية ستحتاج إلى وقت لكي تظهر (وهذا الوقت ليس ببعيد جداً بالتأكيد)، كما أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لمحاربة داعش ما زالت منقوصة في سورية، وينبغي استكمالها وتدارك نواقصها في القريب العاجل وتطوير أدواتها، إذ أن نقطة الضعف الأساسية فيها بالنسبة إلى الساحة السورية هو عدم الوضوح في من هي القوات البرية التي ستهزم داعش على الأرض وتسد الفراغ الناشئ عن انسحابه وتقلصه، هل هي قوات محلية (قوات مركزية موحدة بعقيدة وطنية سورية جامعة، وهي لن تكون موجودة على الأرض في القريب العاجل) أم قوات عربية أم إقليمية (تركية بصورة أساسية)؟ ومن المرجح أن يكون للدخول التركي الفاعل في التحالف الدولي وإقامة منطقة عازلة آمنة في الشمال، في ظل الضغوط الأمريكية لتصحيح الجنوح التركي نحو غلبة التيارات الإسلامية على الميدان وباتجاه تيارات أكثر اعتدالاً، من شأنه التأثير إيجاباً على مسار الثورة السورية سياسياً وعسكرياً ومدنياً، وربما أيضاً على الائتلاف الوطني إذا استعاد وحدته الداخلية وتماسكه واستنهض قواه باتجاه لعب دور سياسي فاعل في المرحلة المقبلة.
تيار مواطنة
9 تشرين الأول 2014