الثورة السورية “عامان من التحدي والتقدم والأمل”ـ تيار مواطنة

 

لا يماري إلا الحمقى والدجالون والعميان في أن الذكرى الثانية للثورة حملت معها انجازات لا تخفى على العين والعقل متجاوزة بذلك مرحلة الخوف من العودة إلى الوراء والتردد والمراوحة مفعمة بالتقدم والأمل والتحدي والإصرار على الهدف الأسمى- إسقاط السلطة السياسية ونظامها السياسي من الجذور- وإن ترافق ذلك بالكثير من الأحلام والأوهام والتشرذم والتخبط والأخطاء الصغيرة منها والكبيرة.

ولعل أهم ملامح هذه الثورة كونها صراع إرادتين: إرادة سلطة الطغيان، وإرادة الشعب وثورته والتي يصعب تصور حلول وسط بينهما.

لقد رفضت سلطة الطغيان الاعتراف بإمكانية الثورة حتى قبل أن تولد، أي منذ النبوءة الحمقاء التي أطلقها رأس السلطة قبل أسابيع من اندلاعها، والتي ماتزال حاضرة بكل ثقلها المتجسد في الوحشية والانكار العنيد للذي يجري، وكأنها، أي النبوءة، قد تحولت إلى لعنة الفراعنة التي لا يغير منها أيّ واقع.

ثمة بالمقابل إرادة الشعب والثوار الماضية قدماً، والتي تعرف جيداً أن الطريق الوحيدة نحو الهدف الأسمى هي كسر إرادة السلطة الغاشمة وإرسالها إلى متحف التاريخ، وشتان ما بين الإرادتين: إرادة السلطة- الطغمة وإرادة الشعب، إرادة الاستبداد والماضي وإرادة الحرية والتاريخ والمستقبل، ولنا أن نتصور في هذه الحال المآل الأرجح لهذا الصراع وبخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة هذه السلطة والمصالح المادية والمعنوية والمخاوف الحقيقية والوهمية لها ولحلفائها في الخارج والداخل وبخاصة لقاعدتها الاجتماعية، ولذلك فلا غرابة إذا أخفقت كل المبادرات العربية والدولية حتى الآن، بل إنها سوف تخفق على الأرجح في المستقبل ما لم تقبل السلطة (وحلفاؤها) بالحقيقة المرّة، حقيقة موتها التاريخي، وتقبل بالتالي تجرع كأس السّم المترتبة على ذلك، تلك الكأس التي تحتاج إلى قدر أكبر بكثير من “الشجاعة” التي أبدتها السلطة في قتل الشعب وتدمير الوطن، والأهم من ذلك الحاجة إلى قدر أعمق من مصارحة الذات والاعتراف بالهزيمة المعنوية المدوية قبل الهزيمة المادية القادمة بالتأكيد، ولكن من أين لشجاعة الحكمة أن تدخل في رأس هذه السلطة، فالحكمة والحماقة ضدان لا يجتمعان.

ما يهمنا في الذكرى الثانية للثورة ليس استعراض الأحداث زمنياً بل محاولة معرفة كيفية ولادة الحاضر الراهن من رحم الماضي، الأمر الذي يسمح أو قد يسمح لنا بمعرفة المآل المستقبلي ودفع الممارسة في الاتجاه الصحيح بما يخدم الثورة ويقربنا من مآلها النهائي المنتظر.

ثمة قولان صائبان، الأول هو: لو كانت نتائج الأفعال البشرية معروفة بدقة قبل البدء فيها لانتفت الحاجة إلى كل علم ولكان صنع التاريخ أسهل من شربة ماء.

والثاني هو: من السهل كتابة التاريخ بعد وقوع الأحداث، ومن السهل إقامة الروابط المنطقية بين الأسباب والنتائج وبالتالي استيلاد الحاضر منطقياً وعملياً من رحم الماضي.

ولذلك فنحن في غنى عن القول: إن الكثير من التوقعات والآمال والآماد الزمنية لم تكن في محلها، ولم يعد لها معنى يذكر سوى الاعتبار بها وعدم تكرارها.

إن الواقع العنيد الوحيد هو استطاعة الثورة تحقيق توازن على الأرض لم يكن موجوداً أبداً، وبهذا المعنى فإن السلطة تقهقرت وهي تتقهقر بقدر تقدم الثورة، ولا يغير من ذلك أطنان الكلام المتعجرف والكاذب والمتذاكي الذي يصدر عن السلطة وحلفائها وأبواقها الإعلامية.

وإذا كان من الصحيح أن السلطة الطغمة والثوار، سواء بسواء قدمت وقدموا الوعود بانتصار وشيك في هذا الموعد أو ذاك فإنه لا يعني بأي حال من الأحوال تساويهما، فأبواق السلطة وحلفاؤها الذين كانوا يتحدثون عن النصر الوشيك والإصلاح الجاري على قدم وساق باتوا يتحدثون اليوم- بل منذ وقت ليس بالقصير- عن صمود السلطة وضرورة الحلّ السلمي وضرورة الإصلاح وعن معارك الكرّ والفرّ وعن التطهير الذي لا نهاية له.

ذلك كله دون الاعتراف بهذه النقلة النوعية في الخطاب، من النصر الوشيك إلى الصمود، ومن الإصلاح الجاري إلى ضرورة الإصلاح بحق، ومن سحق المؤامرة الكونية إلى حلّ سلمي مع “المتآمرين” بالطبع مع الكثير من الرطانة والزخرفات الكلامية، في حين تتحدث الثورة على المقلب الآخر عن ضرورة تغيير نوعي في ميزان القوى على الأرض من خلال السياسة الصائبة ووحدة الشعب والثوار والمعارضة السياسية، ومن خلال الدعم الدولي السياسي والقانوني والمعنوي والمادي والعسكري الضروري- والضروري فقط- ومن خلال تنظيم الأوضاع في المناطق شبه المحررة تمهيداً للمرحلة الانتقالية وسوريا المستقبل، سوريا الحرية والكرامة، ذلك كله دون إدارة الظهر أبداً لأي حلّ سياسي ممكن والذي جوهره- أياً كان اسمه- رحيل السلطة المتفاوض عليه وبخاصة دائرة صنع القرار، وشتان في هذه الحال بين الخطابين، إذ يحتاج المرء إلى الكثير من العمى والانحياز والإنكار حتى لا يعترف بذلك.

يجادل كثيرون وسيستمر بعضهم في الجدال حتى النهاية- إذ لطالما كان الجدل البيزنطي موجوداً وإن يكن مذموماً- حول صيرورة الثورة وطابعها السلمي أو العنفي، والأسباب الموضوعية والذاتية التي دفعت إلى ذلك، ومن المستحيل وضع حدّ لهذا الجدال بغض النظر عن مستقبل الثورة، وذلك ببساطة لعدم إمكانية إدخال حركة الشعوب والتاريخ في مختبر وإجرائها هناك، ومادام الأمر كذلك فإننا نعتقد أن الآراء جميعاً لها الحق في الوجود- على الصعيد التجريدي المحض على الأقل- والصيرورة وحدها هي التي تحكم في النهاية دون أن يعني ذلك بالضرورة أن الرأي المهزوم هو رأي خاطئ، وذلك لأن حركة التاريخ بوصفها إمكاناً مفتوحة على اكثر من احتمال، ولكنها في النهاية بوصفها واقعاً هي ما تحقق بالفعل أو ما هو في حال التحقق.

من هذا المنطق يعتقد تيار مواطنة أن الطابع المسلح الذي انزاحت إليه الثورة في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2011 وفي حمص ذاتها بشكل أساسي كان نتاجاً طبيعياً ليس لطبيعة السلطة الوحشية وقمعها البربري وتدميرها الأعمى فحسب- على الرغم من كون ذلك السبب الأرأس- بل لتعقيد الأوضاع في سوريا أيضاً بدءاً من الانقسام العمودي للمجتمع وبخاصة الاختراق الطائفي للممارسة السياسية والعملية، إن يكن على صعيد السلطة أو على الأرض، وانتهاء بالوضع الجيوسياسي لسوريا- وطبيعة ومصالح وممارسة الحلفاء العالميين والإقليميين والعرب، والتخاذل الدولي الفاضح في دعم الثورة، والحجم الهائل من المكاسب والامتيازات والمصالح المادية والمعنوية للسطلة وحلفائها على مستوى وصعيد والتأثير الزلزالي لأي تغيير حقيقي في سوريا على مصالح واستراتيجيات الحلفاء المذكورين في العالم والإقليم والداخل بما في ذلك إعادة رسم الحضور والنفوذ على الخريطة الدولية والإقليمية، مروراً بالتأكيد بالثروة النفطية وأمن “إسرائيل” وللطابع العفوي للانتفاضة الشعبية وقواها الفعلية المحددة وللافتقار الواضح لقيادة سياسية مركزية تحظى بالاعتراف والنفوذ والحضور الميداني والسياسي والوعي التاريخي الكافي والمخاوف الوهمية والحقيقية لحلفاء السلطة وقاعدتها الاجتماعية في الداخل. انطلاقاً من المقدمات السابقة ، نقول إذا ما أخذنا كل ما سبق بما يستحق نستطيع وضع اليدّ على الأسباب الحقيقية للانزياح نحو العنف الذي لم تكن النوايا الطيبة والإرادات الواعية والموضوعات الإنشائية الإنسانية وبرامج الإنقاذ الوردية قادرة على الوقوف بوجهه.

قلنا: إن الانزياح تجسد- بل تكرس- بشكل رئيس في حمص في أواخر عام 2011 ولكن الدقة تقول: إن بوادره كانت سابقة على ذلك في جبل الزاوية وفي درعا وفي بعض مناطق الغوطة الشرقية.. الخ، وقد كانت نهاية شهر رمضان من العام المذكور محطة مهمة في تطوّر هذه البوادر، إذ بدأت بعض المظاهر تتكاثر وبخاصة بعد انشقاق المئات بل الآلاف من العسكريين الشرفاء الذين لا مهرب أمامهم من الموت سوى الدفاع عن النفس، وقد ترافق ذلك مع الإحباط الناتج عن عدم الاستجابة الدولية لشعار حماية المدنيين، ورفض الموت مجاناً الأمر الذي دفع إلى السطح تكتيك المظاهرات المحمية الذي تنامى بدءاً من شهري آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر من العام نفسه في أغلب مناطق الوسط والشمال في سوريا.

لقد كان ممكناً- عل الرغم من كل المقدمات التي جئنا بها- ونقول ممكناً فقط لجم الانزياح نحو العنف لو توفرت الحماية الدولية للمدنيين ولأن ذلك لم يكن ولأنه أصبح في ذمة التاريخ فقد تزايد الانزياح طرداً- بعد عجز وتخاذل المجتمع الدولي- مع تفاقم المقدمات التي أدت إليه وبخاصة وحشية السلطة والاختراق الطائفي البغيض لهذه السلطة الوحشية من قبلها وقبل قاعدتها الاجتماعية وحلفائها الأساسيين “إيران وحزب الله”، الأمر الذي يقودنا إلى التأكيد مرة أخرى إلى أنه على الرغم مما ذكرنا أنه سبب الأرأس للانزياح فإنه يجب ألا يفوتنا أن تخاذل المجتمع الدولي- المفهوم إلى حدّ كبير والمرفوض إلى حدّ أكبر- ساهم بما لا يقبل الشكّ في دفع الثورة نحو الاعتماد على الذات وعلى العنف وعلى التطرف، وأسس إلى حدّ كبير لتنامي قوة التيارات المتطرفة الإسلامية بل وحتى تلك المتشددة وبخاصة أولئك القادمون من الخارج، واستدرج المزيد من الأخطار الجديدة بل وفاقم تلك الموجودة في الأصل في الواقع السوري المعقد، وترك ما يكفي من البصمات على الاتجاه العام للثورة وبعض فصائلها بالتحديد.

في هذا السياق لا بدّ من التأكيد على أن المجتمع الدولي قد غذّى إذن بتخاذله كلّ المخاوف التي بررّ بها هذا التخاذل ووضع نفسه أمام خيارات قد يكون أحلاها مرّ، فاللجوء إلى الله وحده يتصاعد والتطرف المشؤوم يتفاقم والنظرة السوداوية إلى العالم والآخر تكتسح المواقف العقلانية، والتناقض بين الحاجة إلى الآخر ورفضه في الآن نفسه تولّد الارتباك و الحيرة والاضطراب إن لم نقل الضياع. والحال فإن الحل أوضح من الشمس وهو كامن في التغيير الجذري في الموقف الدولي وإشعار الثورة والشعب السوري أن زمن إدارة الظهر لهما قد ولّى.

يقول البعض- ولا يخلو قولهم من حقّ- إذا كان طيش “بوش”، وبالأحرى أخطاؤه في العراق، قد ساهم في ما آلت إليه العراق وبخاصة تقديمه لقمة سائغة إلى إيران، فإن الاستراتيجية السلمية العالمية “لأوباما” تساهم في دفع سوريا في الاتجاه الخطأ، أو على الأقل لا تساهم في دفعها في الاتجاه الصحيح، وفي كل الأحوال ومع كامل الاحترام للدوافع الإنسانية والسياسية النبيلة للاستراتيجية السلمية في العالم فإن الأوضاع في بعض الساحات وفي بعض الأحيان تحتاج إلى استراتيجية فرعية مختلفة، ونحن نعتقد أن الوضع في بلدنا سوريا من ضمن هذه الأوضاع.

من المفهوم أن ينصب نقدنا على الولايات المتحدة الأمريكية لقوتها العظمى وموقعها في العالم كله وفي منطقتنا ذاتها ولأنها انطلاقاً من ذلك معنية باستراتيجية شاملة تستغرق الكرة الأرضية بالكامل من الصعب تصور منطقة خارج نطاق التأثر بها إن سلباً أو إيجاباً، إلا أن ذلك لا يعني تناسي مسؤولية الحكومات والشعوب الأخرى وبخاصة تلك المتقدمة والأوربية منها بالتحديد.

بالطبع لسنا هنا بصدد بلدان مثل روسيا وإيران والصين بدرجة أقل لأنها في الحقيقية والواقع ـ بعيداً عن ما هو مفترض ـ أبعد ما تكون عن شعبنا وهي في الخندق المعادي إلى هذه الدرجة أو تلك والمراهنة على تغيير مواقفها كالمراهنة على قبض الريح مالم تتغير الأوضاع في سوريا على الأرض بشكل دراماتيكي، وحتى في هذه الحال الأخيرة فمن المرجح أن تدافع إيران وربيبها حزب الله ـ عن السلطة السورية بكل قواها بما في ذلك التدخل العملي المباشر والمفتوح وذلك ببساطة لأن إنهيار هذه السلطة الطغمة يعني إنهيار الحد الأعظم لنفوذهما الإقليمي وحتى الداخلي، وكل كلام عدا ذلك من مثل حكمة السياسة الإيرانية التي تنتمي إلى حضارة الفرس التاريخية، أو الحديث عن صفقة مع الغرب حول حزمة من القضايا من بينها بالتأكيد الملف النووي لا يعدو أن يكون أضغاث أحلام ورغبات طيبة وفيما يتعلق ببقية دول بركس كالهند والبرازيل وجنوب إفريقيا… إلخ فإن مواقفها لا تبعث على الارتياح ابداً وليس من العسير معرفة القاعدة التي تقف عليها، والتي هي استمرار للعقل القديم في بعض أهم محدداته.

فيما عدا ذلك فإن موقف الدول العربية وتركيا معروف للجميع ومع ذلك يجب المرور عليه باختصار فمواقف دول مثل العراق والجزائر ولبنان تصب في خندق السلطة بدءاً من التأييد أو التحفظ أو النأي بالنفس في حين أن دولتين مهمتين مثل مصر وتونس مشغولتان بأوضاعهما الداخلية وبخاصة مصر وعلى الرغم من تأييدهما الواضح والصريح للثورة السورية إلا أنهما ـ وتشاركهما الأردن إلى حد ما ـ في تحفظهما المعلن على بعض أشكال الدعم الدولي يخلقان الأوهام حول حلول أخرى ذاتية أو عربية غير ممكنة على الأرض لإفتقارها للقوى الفعلية اللازمة، ومواقف باقي الدول معروفة وهي إيجابية في الاتجاه العام ـ المغرب وليبيا مثلاً ـ وإذا أخذنا المحصلة العامة لما سبق نتفهم موقف الجامعة العربية على الرغم من أن خطاب أمينها العام يدل بوضوح على معرفته الدقيقة بحدود الموقف العربي المسقوف الأمر الذي يدفعه إلى طلب نقل القضية إلى حيث منبع القوى والشرعية، إلى مجلس الأمن.

بقي أن نقول أن المحصلة السابقة إياها تدفع الثورة السورية بدون قصد بالتأكيد إلى التحول بنظرها نحو دول بعينها مثل السعودية وقطر وتركيا، ولأن الأمر كذلك فإننا نعتقد أن الاختلاف الذي برز أثناء وبعد تسمية رئيس وزراء الحكومة المؤقتة بين السعودية وقطر ضار بالقضية السورية وكلنا أمل في أن تعمد الدول العربية وغيرها المؤيدة للثورة السورية إلى العمل على تجاوز الخلافات وتحقيق الحد الأدنى الضروري من الإجماع.

فيما يتعلق ببعض الجوار فإننا نعتقد أن تركيا تحتل موقعاً خاصاً ومميزاً على كل الأصعدة أن يكن في موقفها أو قوتها أو استعدادها أو دورها في مجمل العملية الثورية الجارية في سورية، وحتى في استقلاليتها إلا أن ذلك كله على إيجابياته مسقوف، أو على الأقل مرتبط بقوة بالموقف الدولي، ولكنه ولحسن الحظ بعيد على أن يكون مجرد تابع له، ومن الممكن أن تلعب الاستقلالية التركية دوراً مهماً في المستقبل.

أما فيما يتعلق بإسرائيل، فمن الواضح أنها أبعد ما تكون عن الترحيب بالإطاحة السورية وبخاصة إذا كان البديل من الطبيعة الإسلامية التي يتوقعها الكثيرون، ومع ذلك وربما بسبب ذلك فإن موقفها يقوم على الانتظار والترقب والاستعداد لأي بديل بما في ذلك بالطبع مراقبتها بدقة لوضع ومآل بعض أنواع الأسلحة في سوريا والمآل الذي قد تؤول إليه في حال انهيار السلطة أو حتى قبل ذلك بقليل أو كثير.

وعلى الرغم من أن التحفظ الإسرائيلي ـ إن لم نقل الرفض ـ على تغيير السلطة قد أو ضح بما فيه الكفاية القيمة الفعلية المحدودة ـ إن لم نقل المحدودة جداً ـ لنظرية الممانعة فإن أصحابها ليسوا على استعداد كما يبدو، لإعادة النظر في مقدماتهم ووضعها في حجمها الصحيح.

استكمالاً لرسم خريطة المواقف العالمية تنبغي الإشارة هنا إلى الموقف السلبي بشكل عام من الثورة السورية لليسار الدوغماتي العالمي والإقليمي والعربي، وحتى من قبل بعض أطراف اليسار غير الدوغماتي بل أن الأمر يتجاوز أحيانا الحد السلبي ليصبح موقفا متحالفا مع السلطة بشكل سافر، وتشارك اليسار موقفه المذكور فئات واسعة من القوى والشخصيات الوطنية والقومية العربية وأحياناً حتى الديمقراطية والعلمانية تحت حجج وذرائع أقرب ما تكون إلى البهتان وفي كل الأحوال وبغض النظر عن وجاه الحجج أو تهافتها فإن الناظم العام لليسار والفئات المذكورة وحتى لبعض الدول ـ ومن بينها تحالف بركس إلى حد كبير ـ هو البنية الذهنية الكلاسيكية التي أكل الدهر عليها وشرب ويصح في مخاطبتهم القول دون تحفظ: هل من الضروري أن نحو الشعب إلى قطيع من أجل المقاومة والممانعة؟! بل هل من المعقول أن يفقد الشعب السوري كيانه بوصفه كياناً سياساً مواطنياً سائداً له الحق في أن يكون كذلك مثله مثل كل شعوب الأرض لمجرد أن التاريخ وضعه في موقع سياسي خاص؟! وهل من المعقول أن تتحول سوريا إلى مجرد موقع جيوسياسي وأن يتحول شعبها إلى مجرد قطيع أو آلة للممانعة والمقاومة؟! أليس بالإمكان أن نجمع الموقف الجيوسياسي الخاص مع الحق في أن تكون سوريا وطناً وشعباً ومواطنة وفي أن تكون حرة كريمة ليس في مواجهتها للخارج فحسب بل في جوهر وجودها أولاً وقبل كل شيء. ومن الجدير بالذكر أن موقفنا النقدي من اليسار والفئات المذكورة يزداد قوة وعمقاً إذا تذكرنا أنهم هم ذاتهم من كتب الأناشيد المطولة عن دور الحرية والكرامة والديمقراطية في تحقيق الأهداف الأصلية للشعوب بشكل عام ولنا نحن العرب وشعوب المنطقة سواء بسواء.

ولكن ما العمل؟ مادام لله في خلقه شؤون، وما دام ردهم علينا جاهزاً يختزل إلى أن الثورة السورية ليست ثورة بل هي فصل من فصول المؤامرة الإمبريالية الصهيونية الكونية ومن يقول غير ذلك فهو أما أعمى أو خائن أو مستسلم للعدوان.

أن الموقف السابق وعلى الرغم من بؤسه المقيم يفقد الثورة السورية الحليف الطبيعي ويظهرها في عيون فئات شعبية متأثرة بما سبق على غير حقيقتها وينفي بهذا الشكل قدراً من طابعها المشروع والأخلاقي والمعنوي، ولأن من المستبعد أن يعود اليسار المذكور إلى الرشد في الأجل القريب بل قد لا يعود أبداً إلى الموقف التاريخي والإنساني مثله في ذلك مثل بعض الدول التي أشرنا إليها، نقول لأن ذلك كذلك فلا بد من بضع كلمات:

1ـ إذا كان الخوف من قبل الفئات المذكورة على مستقبل الممانعة في سوريا فإننا نعتقد أنهم يحجبون الشمس بغربال فالمتخوف الرئيسي من القادم الممكن في سوريا هو بالضبط إسرائيل وأمريكا وكل المجتمع الغربي بدرجات متفاوتة ولأن المرء بحاجة إلى أن يكون مجنوناً أو دجالاً حتى يصدق أن الإسلام السياسي وحتى المتطرف منه نقيض الممانعة، فلماذا يكون ذلك الإسلام والأخوان المسلمين منهم بغض النظر عن أسماء المنظمات، بدءاً من المغرب وانتهاءً بأندونيسيا مرورا بتونس ومصر والأردن وفلسطين ليس ممانعاً فحسب بل ومقاوماً ويكون الإسلام السياسي في سوريا فقط موجوداً لكسر الممانعة؟! أن المرء بحاجة إلى أن يفقد ما هو أكثر من عقله حتى يصدق ذلك!.

2ـ إذا كان الخوف في الحقيقة ليس من كسر الممانعة في سوريا على الرغم من تغطية السماوات بها بل من الأثار الحقيقية التي يمكن أن يتركها الإسلام السياسي على المجتمع السوري وعلى حرية العقيدة والضمير والتعبير والوحدة الوطنية و…الخ، فإنه خوف قابل للنقاش وعندئذ على الذين يحترمون أنفسهم من كل الذين ذكروا أن يقولوا بالفم العريض: ليست المشكلة في الممانعة بل في مستقبل بلد متعدد الطوائف والقوميات في ظل الإسلام السياسي وفي هذه الحال تقف القضية على قدميها، عندئذ يمكن القول: أن أحد أهم العوامل التي دفعت الثورة في الاتجاه المذكور هو موقف هذا اليسار وهذه الفئات الوطنية والقومية والموقف السلبي السافر لطوائف عديدة من هذا الثورة، لقد كان من شأن انخراط كل هؤلاء في الثورة أن يترك أثاره الإيجابية الهائلة على مستقبل سوريا ووحدة أرضها وشعبها ونسيجها الاجتماعي وصيرورتها اللاحقة لا بل أننا نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك لقد كان من شأن الصمت على الأقل أن يغذي بعض هذه الأثار الإيجابية وبدرجة كبيرة، ومع ذلك فإنما يجري وما سوف يجري حتى لو جرى ليس نهاية العالم.

أن سوريا حتى في الاحتمال الأسوأ بعد سقوط السلطة ستكون مثلها في ذلك مثل بلدان أخرى متل تونس ومصر حيث الصراع الحقيقي بين الإسلام السياسي وكل ما عدا ذلك، بالطبع علينا الاعتراف بأن سوريا على هذا الصعيد لديها نقاط قوة ونقاط ضعف لا تقاس على الساحتين المذكورتين، ففيما يتعلق بنقاط الضعف التي تزيد من حجم المخاوف تحتل طبيعة السلطة وطبيعة قاعدتها الاجتماعية المقام الأول وبخاصة إذا تذكرنا أن هذه القاعدة لا تزال في الاتجاه العام ملتصقة بالسلطة وإحدى أهم أدواتها وعناصر استمرارها.

وبالمقابل فإن الطابع المسلح الذي انزاحت إليه الثورة والبنية الاجتماعية والثقافية لها تشكل هي الأخرى نقطة اشكالية وأثرها السلبي اللاحق والراهن يتزايد أو يتناقص بالاستناد لعوامل عديدة من بينها العامل السابق وعامل انحياز إيران والسلطة العراقية وحزب الله إلى هذه السلطة الأمر الذي يعطي نوعاً من المصداقية لدى فئات شعبية واسعة عن نشوب أو إمكانية نشوب صراع سني ـ شيعي سيرخي بظلاله السوداء على كل شيء وبخاصة إذا تذكرنا أيضا موقف السلفية الإسلامية الجهادية في لبنان وفي الكثير من مناطق العالم الإسلامي الذي في اتجاهه العام غير الحصري يصب أو قد يصب الزيت على النار المذكورة.

ملاحظة: فيما يتعلق بحضور الحرس الثوري الإيراني وحزب الله بشكل مباشر في سوريا لم يعد الأمر مجرد أقاويل أو إشاعات أو ظواهر متفرقة لأن القاصي والداني بات يعرف ويرى عناصر من شيعة العراق ولبنان وباكستان وأفغانستان و…الخ تلتئم في سوريا وتكون ألوية قتالية بذريعة الدفاع عن العتبات والأضرحة المقدسة وعلى سبيل المثال لواء أبو الفضل العباس في السيدة زينب والمكون 12 كتيبة وللرقم كما هو واضح دلالة مذهبية سافرة. ولا يقتصر حضور المسلحين المذكورين في الأماكن المذكورة بل إنهم اليوم أصبحوا متواجدين في أماكن قتال أخرى في سوريا وبخاصة في دمشق وريفها وفي حمص وريفها ايضاً، وما دام الأمر كذلك فإن الإشارة إلى صراع سني ـ شيعي لم تعد مجرد إشارة بل إنه بات على اول الطريق الأمر الذي يستدعي بالغ الاهتمام لمواجهته دون الانجرار أبداً إلى مثل ذلك الصراع.

ثمة نقاط ضعف أخرى ولكننا لسنا بصدد الاستقصاء إذ أننا نعتقد أن تاريخ سوريا القريب ـ نترك البعيد الآن ـ وحدود التطرف الراهن وجنسيته وبعض المتغيرات الإيجابية على الصعيد الدولي وإعادة هيكلة الوضع على الأرض سيكون لها مفاعيل إيجابية ليس في المستقبل فحسب بل في المرحلة الانتقالية بحيث نجرؤ على القول حتى الديمغرافية السورية المتعددة على الصعيدين القومي والديني ستكون أحدى نقاط القوة في هذا السياق كما كانت نقطة ضعف حتى الآن وسيكون للتيار الديمقراطي المدني، تيار المواطنة المتساوية، دور وازن أكبر بكثير مما يتصوره كثيرون اليوم.

خلاصة القول: لسنا مذعورين من الإسلام السياسي ولسنا مصابين بفوبياه والأسباب التي تدفع إلى ذلك تعود إلى الأخرين خارجه بقدر ما تعود إليه بل ربما أكثر، كما أننا لسنا مصابين بالنفاق مثل أولئك الذين لا هم لهم إلا الهجوم عليه مستحضرين ليل نهار طبيعة بعض داعمي الثورة من بلدان الخليج كالسعودية وقطر…الخ متناسين أن حليفهم وحليف السلطة هو بالضبط ما يحذروننا منه وهو إيران الدولة الطائفية وحزب الله الطائفي الديني لأن فزاعة كسر الممانعة ساقطة كما أشرنا إلى ذلك فإن من بيته من زجاج يجب أن لا يرمي الأخرين بالحجارة، وعلى من يريد تبديد هذه المخاوف أو التقليل منها بأضعف الإيمان أن ينخرط بكل قواه في هذه الثورة القائمة، لا في ثورة نظرية خيالية لا وجود لها إلا في خيال الملائكة ونأمل أن لا ينخرط اليسار الدوغماتي والفئات القومية والوطنية المذكورة في سلك الملائكة.

إن كل ما سبق لا يعني بأي حال من الأحوال السكوت على الأفكار والممارسات الخاطئة والخطرة التي تطل برأسها في خضم الثورة وبخاصة التي تتسم بطابع طائفي مهما يكن نوعها وحجمها وشكل حضورها ومن المفترض بكل قوى الثورة والمعارضة السياسية وكل المنابر والهياكل السياسية مهما يكن مستواها أو نفوذها وبخاصة تلك التي تعتبر نفسها أو اعتبرت أنها تمثل المعارضة والثورة، نقول من المفترض بل من الواجب أن تبادر إلى نقد بل شجب ممارسات المذكورة والعمل بكل ما أوتيت من قوة على دحضها ومحاصرتها والخلاص منها أو لجعلها مجرد ممارسات استثنائية شاذة كماً ونوعاً.

وفي عودة منا إلى الوراء قليلاً نجد أن عام 2012 ـ وربما حتى الآن ـ كان عام المبادرات والمراهنات على الحل السلمي بدءاً من “الدابي” وانتهاءً “بالأخضر الإبراهيمي” مروراً “بعنان” و”مود”، ولأن المبادرات المذكورة لم يكن لها أفق أبداً في ظل الافتقار إلى الشروط الضرورية لنجاحها فقد كانت ولا تزال ـ موضوعياً ـ مهلاً للدمار والتشرد واللجوء والنزوح والاعتقال والقتل الذي أودى حتى الآن بحياة ما يقارب تسعين آلفاً.

وإذا كنا نقول ذلك فليس انطلاقاً من الوقائع العنيدة والمآل الذي آلت إليه الأمور، ولا انطلاقاً من وحشية الطغمة الحاكمة وعنادها وحقدها الدفين، ولا من مخاوف مؤيديها وحلفائها ولا ..الخ، على الرغم من أن كل ذلك صحيح بالتأكيد، بل انطلاقاً من حقيقة بسيطة مفادها: إذا كان هنالك من يعتقد أنه قادر على هزيمة الطرف الآخر وتحقيق النصر والفوز بكل شيء فلماذا يدخل في حلول سياسية تتطلب منه تقديم تنازلات حقيقية لابد منها لنجاح أي حل. ولأن السلطة الطغمة تعتقد ذلك فليس ثمة معنى إيجابي للمبادرات، ومن الواضح أن السلطة لا تزال من الناحية الرئيسية حيث هي ولذا فإنها لا تستجيب حتى لحلفاء لها مثل “روسيا” التي وصلت منذ بعض الوقت إلى استحالة تحقيق النصر عسكرياً من قبل أي طرف، وفي سياق هذا العناد نرجح أن تكون دعوة رأس السلطة اليوم دول “بريكس” للمساهمة في الحل في سوريا نوعاً من طلب مهلة أخرى وذراً للرماد في العيون.

ربّ قائل: إن الثوار أيضاً يعتقدون بأنهم قادرون على تحقيق النصر ـ وهو قول لا يجانب الصواب ـ وعندئذ فإن المسؤولية عن اخفاق المبادرات تعود إليهم كما تعود إلى السلطة.

قلنا: إن القول السابق لا يجانب الصواب، ولكنه لا يطابقه وذلك للأسباب التالية:

1ـ إن المبادرة يجب أن تصدر أصلاً من السلطة فهذه طبيعة الأمور لأنها الدولة نظرياً على الأقل، وهي التي استخدمت العنف وهي التي وصلت به إلى درك البهيمية، وهي التي استدرجته من الثورة السلمية، وهي التي لم تأبه أبداً بحجم ومستوى القتل والدمار والخراب، وهي التي ينطبق عليها القول: البادي أظلم ـ دون أن يعني بأي حال من الأحوال أن الذي وقع عليه الظلم ـ الشعب والثوار ظالم بأي شكل من الأشكال ـ وهي التي تملك كل ضمانات القوة والسلاح و ..الخ، وهي التي تستطيع عند اتخاذ القرار وضعه موضع التطبيق فوراً.

في حين أن الشعب والثوار لا ينطبق عليهم أبداً ما ينطبق على السلطة، ولا يملكون ضمانات القوة والسلاح التي تملكها، وقد استدرجوا وأجبروا على العنف، وهم في حالة دفاع عن النفس والأهل والشعب الذي يئن تحت وطأة البربرية التي فاقت كل حد، وهم الذين يأبهون بكل قطرة دم وبيت وشارع ومدرسة ومشفى …الخ، ولذلك فإن وضع إشارة مساواة بين مسؤولية السلطة والثورة عن اخفاق المبادرات ظلم بينٌ.

ولنا أن نتصور في هذه الحال لو أن السلطة بادرت بوقف العنف البهيمي، وسحبت القطعات العسكرية إلى الثكنات وتركت الشعب يعبر عن نفسه بالطرق السلمية ما الذي كان يمكن أن يحصل؟

من المرجح أن تحرج السلطة الثوار إلى أقصى حد حتى لو كانوا مقتنعين بالنصر لأن هكذا سلوك من شأنه أن يسحب البساط من تحت الذريعة الأساسية للعنف الثوري التي هي العنف السلطوي، ويمكن الذهاب في هذه الحال إلى ما هو أبعد، إلى مجازفة الثوار بخسارة حاضنتهم الشعبية التي هي المقدمة الأساسية لكل ثورة سلمية كانت أم مسلحة.

2ـ يستحيل على الثورة في الوضع الذي كانت عليه في عام 2012 ـ بل وحتى الآن ـ أن تلقي السلاح سواء أقامت السلطة بالمبادرة أم لم تقم قبل نجاح الحل السياسي والسبب بسيط في ذلك، فالثوار يفتقرون لأي ضمانة محلية او عربية أو دولية لنجاح الحل التفاوضي، في حين تملك السلطة كل الضمانات، فانسحابها من الميدان لا يعني أبدا إلقاء السلاح في حين يختلف الأمر مع الثورة حيث يعري إلقاء السلاح الثورة من عنصر قوة أساسي ويفتح المجال أمام السلطة للاستئساد والارتداد وكل أشكال الانتقام. وإذا صح ما سبق ـ وهو صحيح ـ فإن نجاح أي مبادرة لا تقوم على ضرورة تقدم السلطة بها فحسب بل إلى ضرورة توفر ضمانات دولية وإقليمية وعربية لمآلها الأخير الذي هو انتقال السلطة إلى الشعب وثورته ورحيل السلطة الراهنة، الأمر الذي يعني أن وجود قوة عسكرية كبيرة كافية هو الشرط اللازم، والشرط الكافي يقوم على احتفاظ الثوار بسلاحهم حتى إنجاز الحل السلمي، وإسناد الأمن إلى الشرطة، ومنع أجهزة الأمن من ممارسة أي إكراه أو ضغط أو تدخل في شؤون المواطنين، ناهيك عن الاعتقال، عبر القوة العسكرية المذكورة، ولأن ذلك لم يكن في وارد السلطة، ولا في مضمون المبادرات ـ وبخاصة لافتقارها إلى ذراع عسكرية ضاربة ـ فإن المبادرات ذهبت إلى متحف التاريخ الأمر الذي يعني أنه ليس من حق أحد أن يضع إشارة مساواة في المسؤولية بين السلطة والثورة.

انطلاقاً مما سبق يمكن القول: إن من يريد النجاح للحل السياسي عليه أن يغير ميزان القوة على الأرض، وعليه أن يعترف بضرورة شكل من اشكال التدخل العسكري المباشر أو غير المباشر أو كليهما معاً، بحيث تجبر السلطة على إعادة حساباتها والقبول مرغمة ـ ومرغمة فقط ـ بالجلوس إلى طاولة المفاوضات لنقل السلطة عبر مرحلة انتقالية تقصر أو تطول حسب الشروط المحايثة لها، ويبدو أن فكرة تغيير ميزان القوة بوصفه شرطاً لازماً للحل السياسي بدأت تأخذ طريقها إلى الحضور، وهو الأمر الأهم الأول في تطور الموقف الدولي وانزياحه المحدود نحو مقومات الحل الحقيقية. والأمر الثاني المهم جداً في تطور الموقف الدولي يكمن في الفكرة القائلة بضرورة توفير دعم عسكري نوعي لفصائل بعينها في الثورة ليس من أجل تغيير في ميزان القوة بينها وبين السلطة فحسب، بل ولتغيير الوزن النوعي في الثورة لبعض الفصائل لمواجهة التطرف وبخاصة ذلك القادم من الخارج. وفي طرح هذه الفكرة اعتراف غير مباشر بالخطأ الفادح الذي ارتكبه المجتمع الدولي منذ 18 شهرا على الأقل والذي هو الاستنكاف عن دعم الجيش الحر منذ ولادته، والسماح بذلك للأطراف المتطرفة التي تجد دائما من يدعمها إلى أن تصبح ما هي عليه اليوم.

إن ما سبق ليس كافياً وحده لتغيير ميزان القوة في مواجهة التطرف، بل لا بد من توحيد حقيقي للجيش الحر وتسليحه ليس بالسلاح فحسب بل وبتعزيز عقيدته الوطنية السورية الجامعة ووضع نفسه تحت قيادة عسكرية موحدة فعلاً لا قولاً ووضع هذه القيادة نفسها تحت قيادة سياسية ـ فعلياً لا نظرياً ـ قيادة تستحق اسمها من خلال سيطرتها وقيادتها بالفعل الثوار على الأرض أو على الجيش الحر الموحد على الأقل، ومن أجل المساهمة في تحقيق هذا الهدف لابد أن يمر دعم الجيش الحر من قناة واحدة بدءاً من السلاح وانتهاءً بالمال مروراً بكل شيء بما فيه التدريب والإمداد اللوجستي والتقني.

إن تيار مواطنة يعتقد ـ ويرى مؤشرات على اعتقاده ـ أنه في حال لم يتوفر ما سبق فإننا نجازف بازدياد التطرف واستطالة الزمن وتفاقم الثمن وتزايد المخاطر التي من أسوئها أن تستطيع السلطة استدراج الثورة ـ وبخاصة الفئات المتطرفة والمتشددة ـ إلى ردود أفعال في الممارسة من طبيعة ممارسة السلطة نفسها، فالتاريخ يعلم أن ذلك ممكن وأن الحصانة ضده من أصعب الأمور، فالمعاملة بالمثل قديمة قدم الزمان وتجاوزها بحاجة إلى ثوار حقيقيين صابرين على ما يفوق الاحتمال، واعين أكمل الوعي لتعقيد الوضع السوري، متحلين بأرفع درجات المسؤولية أمام الشعب والوطن والضمير والتاريخ كي يكونوا فعلاً ـ لا قولاً فقط ـ الطرف الأخلاقي المعنوي بامتياز، الطرف النقيض بحق للسلطة الطغمة.

إن تغيير ميزان القوى هو الشرط اللازم لكل حلّ سياسياً كان أم غير ذلك- ولكنه غير كاف لحمل السلطة عليه، لأنها قد تركب رأسها- وهي على الأرجح ستفعل ذلك- وتقاتل حتى النهاية، كما فعل القذافي تماماً، وهذا ما أكد عليه بعض أقطاب السلطة منذ الأيام الأولى للثورة، وهو ما تسير عليه الطغمة الحاكمة بامتياز حتى الآن، وحتى في هذه الحال يبقى تغيير ميزان القوى ضرورياً لتشجيع تيارات أو اتجاهات داخل النظام السياسي- ولا نقول السلطة- قد تتحول في ظروف خاصة إلى مركز قوة فعلي يمكن التعويل عليه في لعب دور إيجابي لصالح سوريا الوطن والشعب، اليوم وفي المستقبل. ويهمنا في هذا المجال أن نشير إلى ظاهرة “الشرع” المختلف في تصوره للوضع وللحل عن السلطة مهما يكن رأينا في حله المقترح، لكن مثل هذه الظاهرة الإيجابية لا معنى يذكر لها مادامت تفتقر إلى مركز قوة فعلي داخل جسد النظام، ولأنها كذلك فقد مرّت، وقد يمر أمثالها مرور الكرام حتى تغيير ميزان القوى على الأرض الذي سيساهم بالتأكيد- مع مفاعيل أخرى من مثل الانزياح الدولي وتشكيل حكومة مؤقتة ناجحة سياسياً وعملياً- في صيرورة من نوع ما في لانهيار السياسي للنظام السياسي بدءاً من الإدارة والحزب وصولاً إلى الجيش والأمن مروراً بمؤيدي السلطة في الداخل وفي قاعدتها الطائفية التي لن تكون بعيدة عن شكل من أشكال فكّ الارتباط.

ومادمنا بصدد ميزان القوى فإننا معنيون بالتوقف أمام الدعم الخارجي ومصارحة النفس بصدق بقدرتنا الذاتية وبما نريده من الخارج، فإذا كنا قادرين على تحقيق النصر بقوانا الذاتية فلا حاجة بنا أبداً لهذا الخطاب الناري ضد المجتمع الدولي والعربي والإقليمي- الذي يضمر الحاجة وخيبة الأمل والعتاب- كما لا حاجة بنا إلى الخطاب المعاكس المترافق مع الأول والذي يستجدي الدعم ليل نهار، إلا إذا كان المقصود منه فقط تقصير الزمن وتقليل الثمن.

إن اللجوء الكثيف إلى الله، والموضوعات الإنشائية المبالغ فيها عن القدرة الذاتية، والتطرف المتصاعد لا ينبع من الطابع العام للثورة والطبيعة البهيمية للسلطة فحسب، بل من خيبة الأمل ومن تخاذل المجتمع الدولي، وعندئذ فلنعترف بحدود قدرتنا، ولنحسن إدارة ملف الدعم بعيداً عن الإنشاء والانفعال والغضب المجاني وحرد الصبيان وفي الإطار المذكور يصح القول: لقد شكل المثال الليبي مشكلة حقيقية في الفكر السياسي الذي أحاط بالثورة السورية، ونحن في تيار مواطنة نتفهم أن يكون المثال- القياس أحد آليات تكوين الموقف الفكري والسياسي والعملي، بل يكاد يكون من طبائع الأمور، فالناس- وحتى أهل العقائد والأفكار- تميل إلى القياس لأنه الأسهل والأكثر ألفة من مغامرة العقل على غير مثال، ولهذا فلا غرابة إذا اعتقد الثوار والحاضنة الشعبية والقوى المعارضة بمعظمها أن نوعاً من التدخل العسكري السريع على المثال الليبي ضروري وممكن.

والحال إن الخطأ يكمن في هذا القياس، لا من ناحية ضرورة التدخل، بل من ناحية الظروف والشروط والأوضاع التي تجعله ممكناً، فليبيا غير سوريا على الأصعدة كافة بدءاً من عزلة النظام الليبي الدولية والعربية وانتهاء بالوضع الداخلي بما في ذلك بالطبع قوة وتماسك النظام نفسه.

لقد أتينا غير مرة على التعقيدات العميقة للوضع السوري الداخلي وعلى تعقيدات الوضع الدولي والاقليمي والعربي فيما يخص سوريا، ولا حاجة بنا لتكرارها إلا عند الضرورة وسنكتفي بإيراد مثال واحد فقط على هذا التعقيد. ففي الوقت الذي كان فيه المزاج الشعبي والمناضلون على الأرض- وفيما بعد المقاتلون أيضاً- والأطراف الأساسية للمعارضة تدفع نحو طلب نوع معين من التدخل الخارجي على قاعدة المثال الليبي، وعلى قاعدة تقليل الثمن وتقصير الزمن، فإن قطاعات أخرى من الشعب- على قاعدة الانقسام العمودي- ومن المعارضة العريقة جعلت ديدنها المقيم رفض هذا التدخل بذرائع لا نهاية لها أولها أنه طريق للكارثة المحتمة، وهو عكس ما ذهبت إليه الثورة في اتجاهها العام. وقد وصل الأمر بهيئة التنسيق الوطنية إلى حدّ جعلت فيه من شعار “لا للتدخل” أحد لاءاتها الثلاث معطية إياه في الأغلب الأعم طابع الأولوية، بحيث كان من الطبيعي أن يشيد منسقها العام الأستاذ “حسن عبد العظيم” بروسيا بعد استخدامها الفيتو الأول في مجلس الأمن بالقول لأنباء موسكو “نتمنى أن تبقى روسيا- وهي الدولة الصديقة للشعوب العربية وشعوب المنطقة- حائلاً دون التدخل العسكري الخارجي، ونطالبها في نفس الوقت بأن لا يكون انحيازها للنظام السياسي في سوريا فقط، بل وأن تأخذ بعين الاعتبار أيضاً مطالب الشعب السوري”.

من المعتقد أن الاستاذ “حسن” يتحدث عن صداقة مفترضة وإلا فإن كلامه متناقض بحقّ مادام يقر بالانحياز الروسي للنظام في سوريا وفي هذه الحال فإن الصداقة تتبخر على أرض الواقع العنيد ولا يبقى منها إلا الأحلام إن لم نقل أكثر من ذلك.

نعود للقول: إن الذي جعل من رفض التدخل العسكري الخارجي قضية الساعة وباع الكوارث المترتبة عليه للشعب والعالم، وقلب المثال الليبي رأساً على عقب دون أن يرمش له جفن، والذي جعل من يوافق عليه حصان طروادة مهمته أن يشرع الأبواب أمام الكارثة، والذي رفض الإقرار بعناد بالمزاج الشعبي الداعي إليه منكراً إياه أو مدعياً أنه من فعل قلة شيطانية من القوى والشخصيات السياسية، نقول أن الذي قام بذلك ليس السلطة- الطغمة فحسب بل هيئة التنسيق الوطنية الأصيلة والعريقة في معارضتها، ولأن الأمر كذلك فلا معنى للحديث المتواتر من قبل قادتها الرئيسيين عن باعة الأوهام والأحلام حول التدخل، مما يوحي بأنهم كانوا مستعدين للاتفاق مع دعاته لو لم يكن وهماً، وهذا غير صحيح بإطلاق، وكل ما في الأمر أنهم يريدون أن يلوموا الآخرين مرتين، مرة لأنهم طالبوا بالتدخل، ومرة لأنه لم يحصل، والحق إذا كان الآخرون قد طالبوا بالتدخل فإنهم سرعان ما لمسوا بعض الحقائق واتخذوا مواقف عقلانية حذرة من تعقيدات المصالح المواقف والأجندات الدولية، ولكن الذي صور التدخل وكأنه على الأبواب، ولذلك شكر الروس على الوقوف بوجهه- وجرّم الآخرين عليه ورماهم بالعمالة هي “هيئة التنسيق” فإذا كانت تعتقد بأنه وهم كما روجت لاحقاً لتضيف تهمة أخرى للآخرين، فلماذا والحال هذه أقامت الدنيا ولم تقعدها على التدخل (الوشيك) ودعاته.

إن المنطق يقتضي القول: إما أن التدخل كان كذلك وبالتالي فالوقوف ضده بالشكل الذي وقفت فيه “هيئة التنسيق” مفهوم، وفي هذه الحال لا معنى أبداً لاتهام الآخرين ببيع الأوهام والأحلام، وإما أنه لم يكن كذلك وفي هذه الحال فإن “هيئة التنسيق” مثلها في ذلك مثل غيرها باعت الأوهام والمخاوف وليس الاحلام بالتأكيد.

وإذا كنا نستفيض في الحوار مع “هيئة التنسيق الوطنية” حول المسألة المذكورة فإن ذلك عائد إلى الأهمية القصوى لها وإلى استمرار حضورها المؤكد في الثورة السورية وإلى كون “هيئة التنسيق الوطنية” الطرف الوطني الأكثر تأسيساً على الصعيدين الفكري والسياسي، المبدئي والعملي ولذلك فإننا سنتابع بالقول: إن مشروع التقرير السياسي “للمكتب المركزي لهيئة التنسيق” الذي طرح في اجتماعها المنعقد في 30 آذار/ مارس 2012 تجاوز إلى حدّ بعيد التخشب الأيديولوجي القديم عقد عقود طويلة، واقترب من الموضوعية والسياسة والواقع في تناول لاءاتها الثلاث المقرّ في 30 حزيران/ جون 2011، لا بل ذهب إلى حدّ اجتراح برلمان بمجلسين من أجل حلّ المسألة الطائفية. الامر الذي يعني ليس الاعتراف بالمشكلة- بعد طول تجاهل- فحسب بال واجتراح حلّ لم يجرؤ عليه طرف سياسي محترم قبلها، والأمر نفسه فيما يتعلق بالعنف فقد وجدوا المبرر الموضوعي للجناح المسلح للثورة في سلوك السلطة وفي الخيارات المرّة للشرفاء من ضباط وجنود الجيش.. الخ. أما فيما يتعلق بالتدخل الخارجي- وهو بيت القصيد- فقد وصلوا إلى أنهم قد يضطرون إلى طلب حماية المدنيين وفق المواثيق الدولية والأممية إذا ظلّ النظام سادراً في غيّه.. الخ. وإذا كان من الصحيح أنهم اشترطوا الكثير قبل طلبه وإنهم تمنوا عدم حصوله فإنهم أجبروا بفعل الواقع على الوصول إلى ما سبقهم آخرون إليه. ولأن الأمر كان على هذه الدرجة من التباين فقد ضرب القادة الرئيسيون في “هيئة التنسيق” عرض الحائط بالتقرير السياسي- أو لنقل بمشروع التقرير السياسي قبل أن يجفّ حبره، وعادوا إلى الدين العتيق، ومع ذلك نجرؤ على متابعة الحوار مع رفاق أنداد لنا لنقول: ألم تكن لموضوعية تقتضي منا- مادمنا ندعي المعرفة بالوضع السوري المعقد وبالكواليس السياسية للدول صانعة القرار في كلّ مكان من العالك- أن ننبه المعارضة ليس إلى مخاطر التدخل (وهو موضع خلاف) بل إلى عسره أو حتى استحالته بدلاً من تجريمها عليه، وأن نلفت نظر الشعب والثورة- بعد الاعتراف بالمزاج العام لهما- إلى التفارق العميق بين المثالين الليبي والسوري حتى لا نصاب بخيبة الأمل ونرتدّ على أعقابنا نحو نرجسية ذاتية مفرطة، ونحو أبلسة الآخر، وإلى تطرف بغيض إلى أبعد حدّ مرفوض بالتأكيد وإن يكن مفهوماً بالقدر نفسه، وأن نعترف على رؤوس الأشهاد بأن الموقف الدولي وبخاصة الأمريكي منه كان أقرب بما لا يقاس إلى “هيئة التنسيق” منه إلى أي موقف آخر دون أن يعني هذا أبداً أي شيء على الإطلاق من قبيل العمالة أو ما شابه من هذه المصطلحات الرخيصة التي ماتزال تستخدم بدناءة من قبل الكثيرين.

لقد خيمت خيبة الامل من تطبيق المثال الليبي على سوريا على قوى المعارضة السورية وغير السورية وعلى المزاج الشعبي والثوري بشكل عام بحيث بات ينظر إلى الخارج، كل الخارج من قبلها بوصفه المتآمر الأول على الثورة السورية وهي النظرة نفسها التي تروجها السلطة السورية وحلفاؤها (المؤامرة الكونية).

إن هذا التشابه- إن لم نقل التطابق- مثير للسخرية ولضرورة العمل الفكري والسياسي لاستعادة فكّ الارتباط هذا وللخروج نهائياً من خيمة نظرية المؤامرة والتفنن في اختراع مضامين لهذه المؤامرة تليق بالأبالسة وبهم فقط، ومن الجدير بالذكر أن بعض التيارات السياسية والاجتماعية انتقلت من أبلسة العالم هذه إلى أبلسة الربيع العربي ذاته، وذلك لأسباب عديدة ليس مكانها هنا من بينها بالتأكيد الطابع العام للثورة السورية وطبيعة الاصطفاف الاجتماعي والسياسي والثقافي حولها ومنها.

من بين التيارات التي تذهب في الاتجاه المذكور، التيار اليساري الدوغماتي في الأغلب الأعم، دولياً وعربياً وإقليمياً ومحلياً، ومثله في ذلك التيار القومي الممانع وحتى غير الممانع بحيث يصبح الصراع ضد الاستبداد جريمة مادامت القضايا القومية والوطنية لم تحلّ بعد وكأنها يمكن أن تحلّ مالم تحلّ مشكلة الاستبداد.

يضاف إلى ما سبق تيار نظرية المؤامرة وهو التيار الموجود في كل الحقول والأطراف من السيار إلى اليمين إلى الوسط، من الإسلام إلى الشيوعية إلى القومية- التيار الذي يرى كل شيء مصنوعاً في الخارج ولا خير على الإطلاق في ماركة خارجية مسجّلة- وعلى النقيض مما مرّ، بل وبالتكامل معه يقف تيار الفوبيا الإسلامية في مقدمة المشككين والخائفين من الربيع العربي بشكل عام وفي سوريا بشكل خاص ويشمل هذا التيار فئات عدة من الوطنيين والعلمانيين والديمقراطيين وبعض منظمات المجتمع المدني بما في ذلك بعض المنظمات النسائية، وأوساط واسعة من الأقليات الديمغرافية- الدينية والطائفية- ويصل الأمر بهم أحياناً إلى حدّ نسيان أو تجاهل الفروق الحقيقية بين الإسلام السياسي المتطرف والمعتدل والإصلاحي والمتنور، والإسلام الشعبي التقليدي، أخيراً ثمة تيار عقلاني مؤيد للربيع العربي وللثورة في الأصل ولكنه بالانطلاق من مقدماته السامية- عقلاً ومبدأ وخلقاً وغاية- في فهم الثورة وممارستها يتحول إلى شكلانية تطهرية بفعل الصدمة التي تخلقها الثورة بأفعالها وممارستها العنفية اللاعقلانية في بعض الاحيان.

إن الثورة- والعنيفة منها بشكل خاص- عمل عنف فوق قانوني وفوق عقلاني أحياناً ومنفلت إلى هذا الحدّ أو ذاك من المعايير القانونية والأخلاقية الصارمة ومن سلوك البشر في الأحوال الطبيعية وبعيدة كلّ البعد عن سلوك الملائكة الأطهار، وكلّ ثورات العالم العنيفة تدور في هذا الفلك والفروق بينها نوعياً أدنى من أن نحاول العيش عليها وعلى مفهوم الثورة الافتراضية حتى لو كان لها قيادة سياسية واعية ومسيطرة فعلاً فكيف الحال مع الربيع العربي الثائر ضد استبداد مقيم والذي هو حركة عفوية ومن قاع المجتمع بامتياز أو على الأقل بشكل رئيس.

وأخطر ما في الأمر أن تيارات الأبلسة هذه لا تكتفي- بل لا تكتفي أحياناً كثيرة- بالانعزال عن مجرى الثورة والوقوف على الحياد، وإنما قد تنخرط في مواقف لا تحسد عليها وقد تصل، في بعض الأحيان، إلى الوقوف مع الاستبداد السلطوي بحجة الوطن أو الشعب أو العقل أو الوحدة الوطنية أو الديمقراطية أو العلمانية أو المرأة أو المستقبل.. الخ.

إن تيار مواطنة يعتقد أن الاستبداد الشمولي الراهن للطغمة الحاكمة في سورية هو الذي يغلق التاريخ، حتى لو كان وطنياً وعلمانياً -وهو ليس كذلك إلا بمعنى في غاية التشوه الطائفي والانتهازي الرخيص- وإنّ أي تيار سيجيء أو قد يجيء مكانه لن يكون بوسعه أن يغلق التاريخ حتى لو كان أسوأ من السلطة الراهنة وأشمل في استبداده –وهو ليس كذلك بالضرورة ناهيك عن الاحتمال الأرجح ألا يؤول إلى ذلك- لأن سورية ستكون حتى في هذه الحالة الاحتمالية في مكانٍ آخر، مكان الصراع الحضاري حول خيارات المستقبل والوجود، مكان الصراع غير المحجوز والمفتوح كما هو الحال في تونس وليبيا ومصر واليمن وإن يكن بشكل أو بآخر.

إن تيار مواطنة لا ينطلق أبداً من أن القادم المباشر هو الأرقى بالضرورة– بل قد يكون أسوأ مؤقتاً- ولكنه ينطلق من أن المهم قبل كل شيء هو فتح الصيرورة التاريخية حتى لو طالت سنوات أو حتى عقود لأن السياق التاريخي العالمي وتاريخ سورية السياسي والاجتماعي، وحتى توازناتها الديموغرافية، لن يكون من شأنها جميعاً إلاّ أن تفضي في نهاية المطاف إلى برّ الأمان.

وفي سياق الحلول السياسية أو العسكرية والسيناريوهات المطروحة لمستقبل الصراع الدامي في سورية، يجدر بنا الوقوف على بعض المواقف التي تجتمع فيها أطراف كثيرة من تيارات الأبلسة مع أطراف في المعارضة السورية حول وثيقة جنيف حزيران/ جون 2012، وحول انتزاع مقعد سورية في الجامعة العربية للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وحول الحكومة المؤقتة، وإذا كان مفهوماً– ومفهوماً جداً- أن تقف الأطراف المذكورة مع وثيقة جنيف– ظاهرياً على الأقل- وضد ما جرى في الجامعة العربية شكلاً ومضموناً، وضد الحكومة المؤقتة، فإنه من غير المفهوم بما يكفي موقف بعض أطراف المعارضة الفعلية، ونخص بالذكر هيئة التنسيق الوطنية– لتاريخها وموقفها ودورها المفترض- من القضايا الثلاث على الرغم من ترابطها الواضح.

فالهيئة ترفض أن يسند مقعد سورية إلى الائتلاف الوطني تحت ذرائع مختلفة بعضها مفهوم ومتماسك بغض النظر عن رأينا فيه، من مثل أن يبقى المقعد شاغراً، أو يسند إلى الحكومة الانتقالية في حال قيامها على قاعدة وثيقة جنيف، وهي نقيض الحكومة المؤقتة وفي هذه الحال تكتمل الدائرة بدءاً من الإشادة بالدور الروسي الذي استخدم الفيتو لمنع التدخل وصولاً إلى التدخل المزدوج الروسي الأمريكي– إذا حصل- من أجل حكومة انتقالية تشارك فيها السلطة والمعارضة لتطبيق وثيقة جنيف– إذا كان لها أي حظٍّ في التطبيق- والمشكلة في ذلك هي كون وثيق جنيف غامضة وغير متفق على تفسيرها بين العملاقين، وهي وثيقة اتفاق اللا اتفاق بينهما، وهي في أحسن أحوالها تعبير عن التخاذل الدولي، ويصعب إلى أقصى حد تصور وضعها موضع التطبيق حسب التفسير الأمريكي، في حين لا يقدم التفسير الروسي للثورة ما يجعل هدفها الأسمى على جدول العمل. وفي ظل الظروف المعقدة التي تحيط بالثورة السورية لا بدّ أن تكون هيئة التنسيق قادرة على استحضار قوى سحرية لاستيلاد التسوية المنشودة من قبلها ومن قبل كثر غيرها. ويبدو أن هذه القوى السحرية في الخلفية المضمرة هي في اتفاق روسيا وأمريكا المأمول على فرض الحل على السلطة والثورة، والأرجح أن هكذا افتراض وعلى الرغم من كل عقلانيته الظاهرة لا يعدو أن يكون “حديث خرافة يا أم عمرو” فحتى لو اتفقت روسيا وأمريكا، والأرجح أنهما لن يتفقا على خطة محددة واضحة، فإن المشكلة الأهم هي في السلطة السورية أولاً والمعارضة الثورية ثانياً، وهنا بيت القصيد.

إلى هنا والأمر غير عسير على الفهم، فمن حق البشر أن يحلموا، ومن حقهم أن يتقدموا بالحلول الإنقاذية على الورق، ولكن ما لا نفهمه هو الرعب من السوابق التاريخية الخطيرة فيما يتعلق بسلوك الجامعة العربية، فإذا كانت خطة الدوحة سابقة فأين المشكلة، وهل يجب أن يكرر التاريخ نفسه دون سوابق، وكيف يستحق اسمه في هذه الحال أصلاً. إن القياس على مثال موجود دائماً ولكنه محايث أيضاً للإبداع على غير مثال انسجاماً مع الصيرورة، وفي هذه الحال لا معنى للاستقواء بهذه الحجة البليدة، ناهيك عن أنها تفترض القبول بسلوك الجامعة لو جاء على مثال، وهو ما نجزم أن هيئة التنسيق لا تريده أبداً. إن السابقة تناقش على قاعدة الخطأ والصواب، والفائدة والضرر… الخ، وبهذا المعنى كان كافياً القول: إن ما جرى يضر بقضية الشعب السوري وهي المعيار الأهم، سواء أكان سابقة أو مسبوقة. ثم إننا لا نفهم كيف يكون شغل المقعد ضاراً بوحدة المعارضة، ومدعاة إلى المزيد من التمزق، فالمعارضة ممزقة على قاعدة الوضع السوري المعقد أولاً وعلى قاعدة الاستجابة السياسية لهذا الوضع ثانياً، ولم تقم وحدة حتى الآن ولن تقوم ما دام الخلاف السياسي المعقد قائماً، والمشكلة ليست في هذا الائتلاف أو ذاك، أو شغل المقعد أو… الخ، إن ذلك كله لا يعدو أن يكون أعراضاً للمرض الأساس، مرض الخلاف المزمن. وفي متابعة لحجج الهيئة نجد أنها ترفض فرض طرف من المعارضة على الشعب السوري الأمر الذي يعني أنه لو شغلت المعارضة مجتمعة المقعد لما كانت هناك مشكلة ولما كان هنالك فرض، وهنا نصل إلى مربط الفرس، فالمعارضة عاجزة عن الوحدة الشاملة إذن فلنؤجل كل شيء إلا ما لا نهاية. لكن الجزء الأساسي من المعارضة المنسجم مع الحراك الثوري والمقاتلين على الأرض اجتمعوا في ائتلاف– حتى وإن لم يكن متطابقاً مع نفسه- فهل نجعل من عدم وجود بعض الأطراف فيه قميص عثمان الدائم، ثم– وهو الأهم- هل يعتقد المعارضون للائتلاف، ومنهم هيئة التنسيق بالتأكيد، أن لهم وزناً كبيراً يجعل من عدم وجودهم في الائتلاف نقصاً فاضحاً في الشرعية والتمثيل و… الخ. إنهم جزء حقيقي من المعارضة وهم بالتالي جزء مؤكد من تمثيل الشعب السوري، ولكن الموضوعية والصدق مع الذات تلزمنا بالاعتراف بأنهم جزء صغير أولاً، وهم على تناقض مع الاتجاه العام للثورة السورية ثانياً، الأمر الذي يجعل من تشكيكهم بالائتلاف غير ذي معنى كبير أولاً، ثم من قال أن قوى المعارضة كانت دائماً قادرة في كل مكان على الوحدة الشاملة ثانياً.

بالطبع إذا تم ذلك فإنه العمل الرائع المطلوب، ولكنه إذا لم يتم فليس نهاية العالم، وباب الائتلاف مفتوح وبوسع كل من يتفق معه سياسياً ويريد أن يكون داخله فعلياً أن يجد الطريق المناسبة إليه خارج النرجسيات والذوات المتضخمة، وخارج الحسابات الضيقة الفئوية والتنظيمية، وبخاصة تلك الشخصية منها.

1) بقي أن نسلط الضوء على بعض القضايا الراهنة والساخنة، من بينها مسألة الكيفية التي شكلت بها الحكومة المؤقتة، ونعتقد أنه من الضروري إجراء جولة مفاوضات صريحة مع قيادة الأركان المشتركة للجيش الحر حول “غسان هيتو”، وحول الخلاف بين بعض الدول العربية حوله بما يفضي إلى الاتفاق على اعتماده، أو إيجاد طريقة أصولية لاستقالته أو استبداله على قاعدة البيان/البرنامج الوزاري، ونؤيد المقترح الذي يفترض الحصول على ثلثي الأصوات لتسمية شخص رئيس الحكومة، والموافقة على بيانه. وفي حال رفض الجيش الحر– ونحن نتخوف من الاختلاف الذي ظهر في الموقف من “هيتو” بين فصائل من الجيش المذكور- شخص “هيتو” واعتماده أو إخراجه بشكل أصولي، ينبغي على الائتلاف إيجاد طريقة لحل المسألة بما يضمن تحصين الثورة وعدم إيقاع الشعب والثوار في خيبة الأمل من جديد، وبما لا يسيء جوهرياً إلى الصداقة الضرورية عربياً وإقليمياً ودولياً. وفي كل الأحوال ينبغي أن يحظى رئيس الحكومة بما يشبه الإجماع الشعبي والثوري لتوفير انطلاقة قوية من البداية، والأمر نفسه يجب أن ينطبق في جزء كبير منه على اختيار الوزراء.

وفي نطاق الملابسات التي أثارها اختيار “هيتو” وفي الردود النارية التي أطلقها “معاذ الخطيب”، نلفت النظر إلى ضرورة التفريق الحاسم بين أن تبدي الدول أو بعضها أو أي دولة رغبةً أو أمنيةً أو أملاً أو رأياً أو اقتراحاً أو حتى مشروعاً- وهي جميعاً مفهومة بل ومطلوبة أحياناً- وبين الإملاء القسري وهو مرفوض، ولدينا بعض الخشية من الخلط بين هذه الحقول، وبينها وبين مبدأ استقلالية القرار الذي هو المبدأ الأساس، ومن المهم في كل الأحوال أن يكون المعيار في النهاية هو مدى انطباق كل ما مرّ على الاتجاه العام للثورة والجيش الحر والمعارضة الراديكالية بحيث يصبح حتى الإملاء في حال تطابقه مع المعيار المذكور شيئاً مختلفاً فيما عدا ذلك، الأمر الذي يسمح بطرق مواجهة مختلفة لكل حال.

2) إن تيار مواطنة يرى ضرورة مبدئية وعملية لتوسيع الائتلاف لأسباب لا يجهلها أحد، ونعتقد أن الأولوية في هذا التوسيع يجب أن تكون للقوى التي هي على الأرض في الداخل: مجالس محلية، مجالس ثورية، حراك ثوري، قيادة الأركان المشتركة إذا رغبت. كما يجب إيلاء حضور المرأة أهمية خاصة بعيداً عن الاصطناع والديكور التجميلي، وفي الإطار نفسه يجب التركيز على الجناح المدني الديمقراطي العلماني في المعارضة، منظمات أو أشخاصاً.

ومن المهم في كل الأحوال التزام المنضمين الجدد بالوثائق الأساسية للائتلاف علناً وصراحةً، كما ومن المهم أن تعطى لهم الحصص المناسبة من المقاعد بما ينسجم مع حضورهم وتاريخهم ووزنهم وأهميتهم في الداخل والخارج بعيداً- وربما بعيداً جداً- عن الحصص الوهمية التي يطالب بها البعض.

وفي حقل آلية عمل الائتلاف والحكومة وطريقة اتخاذ القرارات ستكون لنا مساهمة محددة في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة.

3) كما نؤيد العمل في سبيل عقد مؤتمر وطني سوري عام مع ضرورة التمييز بينه وبين الائتلاف كما هو الآن أو بعد التوسيع، فالائتلاف كما يدل عليه اسمه- هو لقوى الثورة والمعارضة- أما المؤتمر الوطني فإنه تعبيرٌ عن الشعب السوري بكل مكوناته واتجاهاته.

4) وفيما يتعلق برئيس الائتلاف الشيخ “أحمد معاذ الخطيب” فإننا نرحب به ونأمل أن يبقى على رأسه، ولكننا نلفت النظر إلى ضرورة السعي معه للتخفيف من نفاد الصبر والانفعال، ومن الحدة المبالغ فيها في فهم استقلالية القرار ونعتقد أن المرونة هنا مثلها في كل مكان تكمّل الحزم المنشود، كما نلفت النظر إلى ضرورة الخلاص من التردد ومن تغيير بعض المواقف بسرعة. ونأمل أن تدار الأمور السياسية الكبرى لمصلحة الثورة والشعب السوري على قاعدة رفض الفردية والعمل بروح الفريق الجماعي المتحلي بالحكمة والحصافة والصبر والتفهم، وعدم قطع خيوط التواصل وعدم تحويل الاستقلالية إلى شماعة وهمية تعلق عليها كل المواقف، بل ممارستها بحزم ومرونة وبساطة وبدون موضوعات إنشائية شعبوية أكلت من عمرنا وعمر شعوبنا ما يكفي من الدم والأعصاب وحتى العظم.

ونعتقد أن مضمون خطابه في القمة كان جيداً وبخاصة تبويب وتركيز القضايا الأساسية في الثورة مع ملاحظة أن هناك ميلاً واضحاً نحو المشاعر والعواطف الجياشة والشعبوية والحدة في الكلام والحركة، ومع تفهمنا لكل ذلك على قاعدة الوضع المأساوي للشعب السوري نميل إلى الاعتقاد بإمكانية الانفكاك منه في الكلام والممارسة.

كثرت في الآونة الأخيرة الإشارات إلى تقسيم سورية أو قيام دويلة علوية على الأقل، وبغض النظر عن الجهات التي تروج لذلك، فإن تيار مواطنة سبق أن قدم رأيه في هذا الموضوع وهو يؤكد عليه.

باختصار شديد، ليس ثمة إمكانية لهكذا دويلة، فالمشروع وهمي ولا حامل له من داخل سورية، والطائفة العلوية- دعك من بعض الحمقى- أبعد ما تكون عن ذلك، والشعب السوري كله في غير هذا الوارد، وحتى السلطة الطغمة إلى الآن على الأقل بعيدة عن هكذا مشروع، وهي تفكر وتعمل للسيطرة التامة والمطلقة على الوطن السوري الموحد، وأكثر منها بكثير وبما لا يقاس يفكر الثوار والمعارضة في الوحدة المطلقة لسورية أرضاً وشعباً ووطناً. وليس ثمة مصالح تذكر لدول إقليمية تمكنها أن تدعم هكذا اتجاه، وحتى “إسرائيل” لا ترحب به، على الرغم من كل نوازعها في التفريق والتجزئة، وبالطبع انطلاقاً من خوفها من حضور دولة إسلامية متطرفة على حدودها في حال التقسيم على أسس طائفية أو دينية.

والأمر نفسه فيما يتعلق بالدول الكبرى صانعة القرار، حيث لا أحد من مصلحته هكذا مشروع، وقد يقول بعضهم ماذا بشأن روسيا وإيران وحزب الله والعراق… الخ؟ نحن نعتقد أن روسيا أعقل من أن تفكر في ذلك، ولا مصلحة للعراق فيه، وإيران وحزب الله حتى لو أرادا ذلك، وليس بالضرورة أن يريداه، فإن ما بين الإرادة والواقع ما لا يختزل على الإطلاق.

وليس أقل مما سبق الواقع الديموغرافي للمنطقة التي ترشح لذلك والذي يشكل هو الآخر سبباً مهما في وقف هكذا مشروع، والأهم من كل ما سبق هو الاتجاه العام لكل السوريين نحو الوحدة والبقاء فيها بعد أن تم ذلك في عامي 1936 و1937، بعد التقسيم إلى دويلات كمشروع باشره الاحتلال الفرنسي في بداية العشرينات.

وربَّ قائلٍ: ماذا لو خسرت السلطة المعركة السياسية والعسكرية، أليس بالإمكان أن تفكر في ذلك؟ نحن نعتقد أن المعركة الحاسمة هي في دمشق، وجوهرها أن تربح كل شيء أو تخسر كل شيء، وكل ما نراه من مؤشرات يؤكد على ذلك. ولا يغير فيه أن يفكر بعض أساطين الطغمة الحاكمة في الارتداد نحو الجبال الساحلية لتشكيل بؤرة مقاومة ضدّ الثورة السورية، لأن الأمر في هذه الحال ليس إقامة دويلة علوية، بل القتال حتى الموت من أرض يعتقد بعضهم أنها الأنسب له.

ومما لا شك فيه أن مثل هذا الأمر يشكل كارثة جديدة على الشعب السوري، ولكنه قادر في النهاية مع قواه الثورية المسلحة على وضع حد لهذا الجنون، مهما يكن الثمن ومهما يطول الزمن.

دمشق 7-4-2013 المكتب التنفيذي

تيار مواطنة

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة