المواطنة ….التطور التاريخي والمفهوم -أكرم حسين
شهد مفهوم المواطنة تاريخيا تغييرات عميقة في مضمونه ودلالاته ، بعد الازمة التي تعرضت لها الدولة القومية والتحولات التي شهدها نهاية القرن العشرين وتزايد المشكلات العرقية والدينية وازدياد العنف ،واعادة النظر بالعديد من المفاهيم في حقل النظرية السياسية بسبب العولمة ،وفي سوريا يدفع الواقع المعاش عبر الاحداث اليومية الى تحدي اشتغال الاوساط السياسية والثقافية والاعلامية بمبادئ المواطنة واليات تطبيقها ،حيث تقف عوامل متعددة خلف هذا التحدي وتؤدي الى تبلور متغيرات فكرية وسياسية واجتماعية في اطار القوة السائدة ،وتفجر العنف والذبح على الهوية ،واستفحال المشكلات القومية والدينية
وتأتي اهمية الحديث عن المواطنة نتيجة التفكك وغياب الروابط والتضامن ، وبروز مؤشرات ملموسة باتجاه الفدرللة او التقسيم ، لأنها تتكون من اعراق وديانات ومذاهب متعددة وتنوع سياسي. ظل محكوماً بالقسر والإكراه لأكثر من اربعين سنة . فسوريا كبلد موحد لم تكن الا حصيلة لسياسة القهر وإرهاب الدولة والقمع المنظم والاعتقالات والطغيان الذي قاد البلد من أزمة إلى أخرى, إضافة إلى هدر الأموال والثروات و عسكرة بنى الدولة والمجتمع.. ولم يكن ذلك التوحد حصيلة طبيعية للرضى والتعايش الحر بين تلك المكونات.
وعليه فان الثورة السورية القت بظلالها على المجتمع السوري, وانعكس ذلك بشكل سلبي على المواطن اذ بدأ يتوجه نحو الدين او الطائفة او القومية…, بدلا من الهوية الوطنية المشتركة وذلك نتيجة سيطرة الجماعات المسلحة وفرض اجندتها وتشويه مفهوم المواطنة والعيش المشترك من قبل مختلف القوى المسيطرة ،التي انشأت نموذجها الخاص وفشلت في بناء هوية وطنية جامعة.
من هنا يمكننا ان نتساءل عن موقفنا كأفراد داخل المجتمع السوري القادم ، عن حقوقنا وواجباتنا وكيفية ممارسة هذه الحقوق وحمايتها ،بعد ان غابت الدولة وغابت مشاركتنا عن الشأن العام بسبب تفكك الدولة وتحولها الى ميليشيات وعصابات وامارات حرب للقوى المسيطرة عسكريا وفرضت مثالها السياسي والاجتماعي ونسقها الفكري والثقافي والاخلاقي ، ومع الحديث عن الانتقال السياسي والدستور والانتخابات ، يدفعنا التساؤل السابق الى طرح مسألة المواطنة المتساوية بمختلف ابعادها وكيفية بناء دولتها ، وسبل منع عودة الاستبداد المحدثن في صيغته المتجددة ، والخروج من حالة التقبل السلبي لما يجري من قرارات وخيارات، الى الفعل المنتج والمساهم في الحياة العامة بمختلف مجالاتها واوجهها .
يرجع البعض مبدأ المواطنة الى المدن الاغريقية او فكر ارسطو فالرجل الذي كانت تتوفر فيه شروط معينة في اثينا من حقه ان يشارك في ادارة الشأن العام عبر التصويت في الامور والقضايا التي تهم المدينة وممارسة حق الانتخاب ، اما البعض الاخر فيربط ظهوره بعملية استقرار البشر وانتقالهم الى حالة التوطن ونشوء المدينة كفضاء افترض العيش المشترك لأناس مختلفين في الطباع والسلوك والمصالح ، وكانت بلاد ما بين النهرين من اوائل المناطق التي شهدت معنى المدينة ،ثم توسع المفهوم عند الرومان ،ليشمل كل المواطنين بما فيهم النساء عبر اصدار “منشور كركلا” 212 قبل الميلاد، ونظم الرسول محمد في صحائف المدينة التي وضعها عام 623 م ، العلاقات بين ابناء المدينة وحدد التزامات المهاجرين والانصار واليهود وواجب القبائل في الدفاع عن المدينة، وعاد المفهوم للظهور في اوربا عام 1642في انكلترا مع توماس هوبز وكتابه ” المواطن او اسس السياسة ” وتدعم بشكل اعمق في القرن الثامن عشر مع قيام الثورة الفرنسية وصياغة مبادئ المواطنة واصدار اعلان حقوق الانسان ابان الثورة عام 1789
قبل البدء بتعريف المواطنة لابد من ايضاح بعض المصطلحات التي لها علاقة بالمفهوم , فالوطن حسب ( ريموند كايتل ) هو:( مجتمع من الافراد يقيمون باستمرار في اقليم معين, مستقلين من الناحية القانونية عن كل تسلط اجنبي, ولهم حكومة منظمة تشرع وتطبق القانون على جميع الافراد داخل حدود سلطتها).
والمواطن فرد من المجتمع له حقوق وعليه واجبات,اما المواطنة فهي علاقة عضوية متبادلة بين المواطن والدولة، ويعرفها البعض على انها مصطلح سياسي متطور ومتبدل يتطور مع التاريخ بحيث يمكننا القول بان المواطنة ” تتمثل في المشاركة الواعية والفاعلة لكل فرد دون وصاية من الدولة ” ،وتعرفها دائرة المعارف البريطانية ( بأنها علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة, وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة).وتؤكد (بأن المواطنة على وجه العموم تسبغ على المواطن حقوقا سياسية ،مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة ).اي ان المواطنة تتحدد اعتمادا على طبيعة العلاقات القائمة بين المواطن كعضو في كيان سياسي (الوطن ) وبين كل شرط من شروط تكونه بمعنى وجود ابعاد متعددة ومتكاملة للمواطنة ويتمثل اولها في البعد الحقوقي ،وهي الحقوق التي تكفلها الدولة للمواطن دون أي تمييز على اساس العرق او الجنس او الدين او الثروة مقابل التزامات الفرد تجاه الدولة والاخرين ،والثاني اقتصادي يستهدف إشباع الحاجات المادية الأساسية للفرد وتوفير الحد الادنى لحفظ كرامته الانسانية والثالث يتعلق بمكونات الفضاء أي يهتم بالجوانب الروحية والنفسية والمعنوية للأفراد والجماعات على أساس احترام خصوصية الهوية الثقافية، ويمكن تلخيص مبادئ المواطنة بالجملة ” المشاركة الحرة للأفراد المسؤولين المتساويين ”
ترتبط المواطنة بالممارسة الديمقراطية وهي صفة للمواطن الذي يتمتع بكامل حقوقه ويلتزم بواجباته التي تفرضها طبيعة انتمائه الى وطن وفي صدارة هذه الحقوق تأتي الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتنفيذ واجباته كالولاء للوطن والدفاع عنه والعمل في سبيل تطوره وتقدمه ،وتتجسد المواطنة الفعالة من خلال علاقة الفرد بالدولة عبر الدستور وضبطها بالقوانين المنبثقة عنه، التي يجب ان تحمل كل معاني المساواة ، ولتحقيق المواطنة الحقيقية لا بد من وجود دولة ديمقراطية مستقلة ذات سيادة ،وما يستتبع ذلك من حق اختيار العيش المشترك وتقرير المصير بمعنى كفالة تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات واتاحة المشاركة في الفضاءات العامة وتحمل المسؤوليات المختلفة وتحقيق التنمية لإيجاد بيئة انسانية صحية مديدة وخلاقة، وهذا لا يمكن ان يتحقق الا عبر مؤسسات ديمقراطية تفرض القانون وتصونه.
_____________________________________________________________
نشرت في صحيفة بوير برس العدد (43) تاريخ 15-5-2016