التفسيرات السيكولوجية والسوسيولوجية للتفرقة الإثنية /محمد علي باشا
رغم محاولات علماء الاجتماع الدؤوبة تفسير تلك الظاهرة ودراستها وتحديد أطرها ومنشؤها وأساليب مكافحتها لتخفيف أثارها السلبية وتهذيبها ولمحاولة الانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل التطور البشري تنتفي معها التفرقة بين الناس على أساس العرق أو الدين أو اللغة أو اللون أو الجنس ليتفرغ الناس لما فيه صلاح وأنسنة هذا العالم المترامي الأطراف. وإن ما يدعونا حقيقة للاستغراب هو عدم قدرة الشعوب المتقدمة منها أو المتخلفة على تجاوز هذه العقدة فحتى الدول المتطورة التي خطت أشواطا كبيرة في مجال الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطيات لا تزال تعاني من تلك الظاهرة حتى يومنا هذا وتاريخها حافل بالمآسي المخجلة التي يندى لها جبين البشرية وإن كان بوطأة أقل من دول العالم الثالث.
ورغبة منا في محاولة تفسير هذه الظاهرة بكامل أبعادها تجنبا لإثارها السلبية ومحاولة للارتقاء نحو إنسانية أفضل فإننا نبدأ أولا بدراسة المقصود بالأقلية والإثنية والجماعة الإثنية ثم نبحث في أسباب التمييز والتحيز والعنصرية ثم نختتم بدراسة الأسباب والتفسيرات السيكولوجية والسوسيولوجية لتلك للتفرقة الاثنية.
العرقية
يمثل العرق واحدا من أكثر المفاهيم تعقيدا في علم الاجتماع نظرا للتناقض بين استخداماته في الحياة اليومية من جهة وغياب الأسس العلمية الموضوعية لمعانيه ودلالاته من جهة أخرى كما أن كثيرا من الناس يجانبون الصواب في أيامنا هذه عندما يميلون إلى تصنيف البشر على أساس انتمائهم إلى أعراق مختلفة بفعل العوامل البيولوجية وليس من الغريب حدوث هذه المغالطة لأن العلماء والباحثين قاموا بعدد كبير من المحاولات لتصنيف شعوب العالم إلى فئات مختلفة وقام عدد من الدارسين بالتمييز بين الناس بوضعهم في أربع أو خمس فئات بينما استحدث علماء آخرون ما يزيد على ثلاثين فئة.
ظهرت المحاولات العلمية الأولى في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر وكانت بمجملها تحاول تبرير النظام الاجتماعي بعد انتشار السيطرة الاستعمارية أو الأوروبية إلى مناطق وشعوب أخرى في العالم وطرح الكونت جوزيف آرثر دو غوبينو (1816-1882) الذي يعتبر عميد المدرسة العرقية العنصرية نظريته التي قسم بها الشعوب إلى ثلاثة أعراق الأبيض القوقازي والأسود الزنجي والأصفر المنغولي وكان هذا الدارس يرى أن لدى العرق الأبيض صفات متفوقة من حيث الذكاء والسمو الأخلاقي والإرادة وهذه الصفات الإرثية هي التي أدت إلى بسط المجتمعات الغربية سيطرتها على العالم أما السود فهم يحتلون في المقابل مرتبة دنيا في قدراتهم ويقتربون من المرتبة الحيوانية في افتقارهم للقيم الأخلاقية والاكتفاء العاطفي وقد ترددت أصداء هذه الآراء في نزعات عنصرية وعرقية لاحقة مثل حركة أدولف هتلر النازية في ألمانيا والحركات التي شاعت في أوساط البيض مثل حركة كوكلوس كلان في الولايات المتحدة الأميركية وآباء النظام العنصري في جنوب أفريقيا قبل انهيار نظام الأبرتايد في مطلع التسعينات بعد نضال طويل قام به الأفارقة بزعامة نيلسون مانديلا وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية تهاوت جميع المحاولات النظرية العرقية التي تعلي من خصائص الرجل الأبيض وتبرر تفوق البيض والمجتمع الغربي عامة على الأعراق الأخرى.
الإثنية
فيما يوحي استخدام مصطلح العرق بدلالات ومعان عنصرية قائمة على أصول بيولوجية ثابتة فإن مفهوم الإثنية يحمل معنا اجتماعيا خالصا فالإثنية تشير إلى مجمل الممارسات الثقافية والنظرة التي تمارسها أو تعتنقها جماعة من الناس وتتميز بها عن الجماعات الأخرى ويعتقد المنتمون إلى جماعة إثنية أنهم يتميزون من الوجهة الثقافية عن الجماعات الأخرى في مجتمع ما وتعمل الخصائص المختلفة على تمييز الجماعات الإثنية إحداها عن الأخرى ومن أبرز هذه السمات المميزة: اللغة أو التاريخ أو السلالة والدين وأساليب اللباس والزينة، والفوارق الإثنية هي مما يجري تعلمه واكتسابه في سياق اجتماعي بصورة كلية وليس ثمة جانب فطري أو غريزي في الخصائص الإثنية فهي كلها ظاهرة اجتماعية خالصة يجري إنتاجها وإعادة إنتاجها على مر الزمن.
مفهوم الجماعة الاثنية
من المفهومات الرئيسية في العلم الاجتماعي مفهوم الجماعة العرقية أو الإثنية فكلمة إثنية مشتقة من أصل يوناني (ETHNO) بمعنى شعب أو أمة أو جنس وفي العصور الوسطى كان يطلق هذا اللفظ في اللغات الأوروبية على من هم ليسوا مسيحيين أو يهودا، ولكن في العصور الحديثة أصبح اللفظ يستخدم في العلوم الاجتماعية ليشير إلى جماعة بشرية يشترك أفرادها في العادات والتقاليد واللغة والدين وأيّ سمات أخرى مميزة بما في ذلك الأصل أو الملامح الفيزيقية الجسمانية ولكنها تعيش في نفس المجتمع والدولة مع جماعة أو جماعات أخرى تختلف عنها في إحدى هذه السمات. وملاحظة التمييز في هذه الصفة أو الصفات المشتركة في أفراد جماعة معينة وتباينها عن جماعات بشرية أخرى ينطوي على عنصر ذاتي وعنصر موضوعي -العنصر الموضوعي هو وجود الاختلاف أو التباين بالفعل في أيّ من المتغيرات المذكورة أعلاه ( اللغة- الدين-الثقافة-الأصل القومي-المكاني-السمات الفيزيقية) أما العنصر الذاتي فهو إدراك أفراد الجماعة وإدراك الجماعات الأخرى القريبة منها لهذا التمايز والتباين وهو يؤدي إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة في مواجهة الجماعات الأخرى.
وقد تتفاوت درجات كل من العنصرين الموضوعي والذاتي من موقف إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى فالتباين الموضوعي في اللغة مثلا قد تتفاوت درجاته من الاختلاف الكامل (الأرمنية-العربية) إلى الاختلاف الطفيف في اللهجات وفي إطار نفس اللغة ( اللهجة العراقية-المصرية-المغربية) ويصدق الشيء نفسه على التباين الديني الذي قد تتفاوت درجاته من الاختلاف الهائل (ديانات سماوية-ديانات غير توحيدية) إلى اختلاف أقل درجة مثل التباين داخل الديانات التوحيدية( التباين بين الإسلام واليهودية والمسيحية) إلى اختلاف مذهبي أقل مثل (البروتستانتية- الكاثوليكية) في المسيحية.
والمهم من وجهة نظر التفاعل والعلاقات بين الجماعات الإثنية ليس هو عنصر التباينات الموضوعية أو درجة تفاوتها بل ما قد يترتب عليها من حدة في الإدراكات الذاتية ومن مواقف واتجاهات اجتماعية سياسية وانعكاس ذلك في أنماط السلوك والعلاقات تجاه الجماعات الإثنية الأخرى المجاورة لها أو المتفاعلة معها فقد يكون الاختلاف الموضوعي في أيّ من المتغيرات الإثنية كبيرا ولكن أفراد الجماعات المتفاعلة أو المتجاورة لا يضفون على هذا الاختلاف أهمية تذكر.
الأقلية والأقليات
يشيع استخدام مصطلح الأقليات في أوساط علماء الاجتماع المحدثين لا للدلالة على الحجم العددي أو الإحصائي لفئة معينة من السكان، ففي المفهوم الإحصائي العددي يشار إلى الأقلية باعتبارها دلالة على فئة متميزة بخصائص معينة يقل حجمها عن مجموع عدد السكان العام مثل فئة العمر بين (70-80 سنة) أو فئة من يزيد طوله عن 2 م وكثيرا ما تضاف صفة الإثنية بعد مصطلح الأقلية لتمييز مجموعة ما من الوجهة الاجتماعية بخصائص معينة سواء منها ما يتعلق بالسمات الثقافية وربما القيمية أو بصفات جسمانية.
ويميل علماء الاجتماع إلى النظر إلى الأقليات الإثنية التي تعيش في المجتمعات الغربية عموما باعتبارها جماعات مستضعفة ولكنها تحافظ على قدر كبير من التضامن والانتماء فيما بينها كما أن بعض الباحثين يستخدمون مصطلح الأقلية لا بمعناه الأدبي أو الإحصائي بل بمعنى خضوع هذه الفئة الإثنية لسيطرة فئة أخرى أقوى منها في هرم التراتب الاجتماعي ذلك أن مفهوم الأقلية الإثنية غالبا ما يحمل معنى الاستضعاف في مجتمع ما بينما يمثل هؤلاء أغلبية ساحقة في المجتمعات التي وفدوا منها عبر تاريخهم الحضاري.
التمييز والتحيز والعنصرية
في كثير من الأحيان ترتبط مظاهر استضعاف الأقليات الإثنية في نظر علماء الاجتماع بشيوع مواقف التمييز واللامساواة ضدها على المستويات الفردية والاجتماعية إلى أن تصل في بعض الأحيان إلى المستوى المؤسسي المتمثل بتطبيق القوانين والاستخدام في القطاعين العام والخاص أو مزاولة الأنشطة السياسية أو المهنية كما يشير علماء الاجتماع.
إلا أنه رغم تهافت الأسس العلمية الموهومة للتفوق العرقي واختفاء نظام الفصل العنصري في الولايات المتحدة الأميركية في الستينات وانهيار نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا في مطلع التسعينات من القرن الماضي فإن العرقية أو العنصرية القديمة قد استعيض عنها في المجتمعات الغربية فيما يسمى العنصرية الجديدة، ويطلق أحد علماء الاجتماع على هذه الظاهرة اسم العنصرية الثقافية ويتمثل هذا الشكل الجديد في تغليب ثقافة معينة أو منظومة من القيم مع النظر بازدراء إلى ثقافات أو قيم تتبناها وتمارسها شرائح أخرى في المجتمع الواحد ويتجلّى ذلك في قوانين الهجرة المطبّقة في المجتمعات الغربية التي تستثني أو تقلل هجرة جماعات إثنية محدودة إليها أو التركيز في المجتمعات التي تدّعي التعددية الثقافية على ثقافة الأغلبية البيضاء مع الحط من قدر الثقافات والقيم التي تنتمي إليها مجموعات إثنية أخرى في المجتمع، أما العنصرية المؤسسية فهي في رأي كثير من الباحثين شائعة في المجتمعات الغربية وقد تغلغلت ورسّخت في بينة المؤسسات مثل الشرطة والخدمات الصحية والمدارس وكثير من معاهد الدراسة العليا ومراكز الاستخدام في القطاعين العام والخاص.
التفسيرات السيكولوجية للتفرقة الاثنية
هناك مقاربتان نظريتان في علم النفس قد تساعدان على فهم التوجهات المتميزة والأسباب التي يعلّق كثير من الناس من أجلها أهمية خاصة على الفوارق الإثنية.
وتعتمد المقاربة الأولى على أن التمييز يدور في أساسه من خلال النمذجة أو التفكير التنميطي أي إسباغ خصائص ثابتة أو متصلبة على جماعة بشرية ما فقد يلجأ الأفراد أو حتى الجماعات إلى نماذج أو أنماط وقوالب جاهزة للتعبير عن كبش فداء لأفعال وتصرفات لا علاقة لهم بها وينتشر لوم الضحية أو استخدامها كبش فداء في الأوضاع السياسية التي قد يغالي فيها الطرف الأقوى في فرض سطوته على فئة مستضعفة ويشيع موقف التمييز هذا تجاه الجماعات الإثنية والأفراد نظرا لسهولة استخدامهم من جانب الفئات أو الأفراد الأكثر سطوة وقوة.
وعلى مستوى النزعات وأنماط السلوك الفردي ترى المقاربة النفسية الثانية أن هناك نوعا من الناس تتحكم فيهم اعتبارات تنشئتهم الاجتماعية المبكرة وتجعلهم ميالين أكثر من غيرهم إلى التفكير التنميطي أو الإسقاطي الذي يمثل نزعة الفرد إلى إسقاط رغباته وفورات مزاجه ولحظات غضبه على الآخرين وتبرز في هذا السياق الدراسة الشهيرة التي أجراها تيودور أدورنو وزملاؤه قبل أكثر من نصف قرن عن الشخصية التسلطية.
التفسيرات السوسيولوجية للتفرقة الإثنية
إن الآليات السيكولوجية التي استعرضناها توجد بين أعضاء جميع المجتمعات وتساعدنا في تفسير أسباب انتشار العداوات الإثنية في مختلف الثقافات غير أنها من جهة أخرى لا تعطينا إلا القليل في معرض إيضاح العمليات الاجتماعية التي تتضمنها التفرقة وهنا يجيء دور الأفكار التي طرحها علماء الاجتماع لتفسير هذه العمليات حيث تدور التصورات السوسيولوجية عن الصراع الإثني على المستوى العام في ثلاثة محاور هي التمركز الإثني وانغلاق الجماعة الإثنية وتخصيص الموارد. وتشير ظاهرة التمركز الإثني إلى التوجس والشك تجاه الأجانب مقرونا بالميل إلى تقييم ثقافات الآخرين بمعايير ترتكز على ثقافة الجماعة الأولى نفسها. وتظهر جميع الثقافات تقريبا هذه النزعة إلى التمركز الإثني الذي يلازمها في أحيان كثيرة الميل إلى التفكير التنميطي وفي هذه الحالة ينظر إلى الأجانب باعتبارهم غرباء وبرابرة أو منحطين أخلاقيا وهذه هي الطريقة التي نظرت فيها أكثر المدنيات إلى أبناء الثقافات الصغيرة مما أدى إلى مصادمات إثنية لا حصر لها عبر التاريخ.
وقد يسير التمركز الا إني جنبا إلى جنب مع انغلاق الجماعة الذي يشير إلى محافظة المجموعة على الحدود الفاصلة بينها وبين الآخرين ويجري تشكيل هذه الحدود عن طريقة وسائل إقصائية تحدد وترسخ حواجز الفصل بين مجموعة إثنية وأخرى.
وتشمل هذه الوسائل حظر التزاوج بين الجماعات وفرض قيود على العلاقات الاقتصادية والتجارية أو بناء الحواجز المادية بين الجماعات كما في حالات الغيتو والفصل العنصري، وفي بعض الأحيان تقوم الجماعات المتساوية في القوة والنفوذ بوضع حدود الانغلاق بصورة مشتركة إذ يقوم أعضاء كل من الفئتين بالحفاظ على مسافة بين الجماعتين دون أن تقوم أيّ منهما بمحاولة فرض سيطرتها على الآخر غير أن الأكثر شيوعا هو أن تهيمن مجموعة إثنية على أخرى من خلال تخصيص الموارد في المجتمع مما يسفر عن مأساة اللامساواة في توزيع الثروة والمكاسب المادية.
ومن جراء خطوط الانغلاق هذه تنشأ أعنف الصراعات بين الجماعات الإثنية لأن هذه المعالم هي التي تدل على حالة اللامساواة والتفاوت في توزيع الثروة والسلطة والمنزلة الاجتماعية ويساعدنا مفهوم الانغلاق الإثني على فهم الفوارق المختلفة الظاهرة منها أو الخفية التي تفصل بين الجماعات فهي لا تشرح لنا أسباب إطلاق النار أو السحل أو الضرب أو التحرش الذي قد تتعرض له إحدى الجماعات فحسب بل توضح لنا الدوافع التي تحرم أعضاءها من الحصول على وظائف أو مناصب مناسبة أو تعليم لائق أو مكان ملائم للسكن والإقامة. فقد تقوم الجماعات التي تتمتع بهذه الامتيازات بأعمال بالغة العنف تجاه الآخرين للمحافظة على موقعها المتميز كما أن الجماعات المستضعفة تتحول إلى العنف بالمثل في محاولة تحسين أوضاعها.
وحاول بعض الدارسين تتبع النزعة العنصرية إلى أصولها في الثقافة العامة في المجتمع مع الإشارة إلى أن هذه الظاهرة تمثل استجابة طبيعية من جانب القوى الاجتماعية المحافظة في أوقات التغيير وعدم الاستقرار، وترى التفسيرات الثقافية في العنصرية شكلا من أشكال الدفاع ضد استحداث العادات أو اللغات أو أساليب العيش التي تهدد الوضع الراهن غير أن مثل هذه التفسيرات لا تفي بالغرض لأنها لا توضح لنا ارتباط النزعة العنصرية بالبنى والقوى الفاعلة على مستوى المجتمع بمجمله لا على مستوى الأفراد فحسب.
وفي المقابل تعنى نظريات الصراع بدراسة الصلة بين العنصرية والتمييز من جهة وعلاقة القوة واللامساواة من جهة أخرى وكانت أوائل المقاربات الصراعية لقضية العنصرية متأثرة إلى حد بعيد بالنظرة الماركسية التي تعتبر النظام الاقتصادي هو العامل المحدد لجوانب المجتمع الأخرى. ويرى بعض المتطرفين الماركسيين أن العنصرية هي من نتائج الرأسمالية وينتقدون الطبقة الحاكمة التي استخدمت العبودية والاستعمار والعنصرية العرقية بوصفها أدوات استغلال الطبقة العاملة غير أن الماركسيين الجدد يختلفون مع سابقيهم في هذه النظرة التي يعتبرونها متزمتة وساذجة ويرون أن العنصرية ليست حصيلة للقوى الاقتصادية بمفردها. وتطرح مجموعة من هؤلاء الدارسين أراء أخرى حول نشوء العنصرية وفي حين يقرون بأن الاستغلال الرأسمالي للعمال هو واحد من الأسباب فإنهم يشيرون إلى مجموعة من المؤثرات التاريخية والسياسية التي أدت إلى ظهور أنواع جديدة من العنصرية في بريطانيا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ويرى هؤلاء أن العنصرية ظاهرة مركبة متعددة الوجوه تشمل التفاعل بين المواقف والمعتقدات التي تحملها الكيانات الإثنية والطبقات العاملة. ويضيف هؤلاء أن مجال النزعة العنصرية هو أوسع بكثير من الأفكار القمعية التي تحملها وتمارسها النخب القوية ضد الجماعات الملونة التي لا تدخل في عداد الجنس الأبيض.
التكامل الإثني والصراع الإثني
تتميز كثير من دول العالم اليوم بتركيبة اجتماعية متعددة الإثنيات وقد تكون هناك أصول تاريخية لهذا العقد الإثني سواء في جوانبه الخفية أو المعلنة ويصدق ذلك على المجتمعات الأميركية الأوروبية وعلى مجتمعات كثيرة في آسيا وأستراليا وأفريقيا، وقد تزايد تعدد الإثنيات في بعض المجتمعات الحديثة في أعقاب السياسات التي انتهجتها خلال العقود الأخيرة لتشجيع الهجرة إليها أو بسبب السياسات الاستعمارية التي مارستها بعض الدول الأوروبية على أراضي شعوب أخرى في آسيا وأفريقيا خلال القرون الثلاثة الماضية.
ومع تسارع العولمة وعمليات التغير الاجتماعي في عالمنا المعاصر فإن التنوع الإثني وما ينطوي عليه من فوائد وتعقيدات يطرح تحديات جدية أمام أعداد متزايدة من البلدان، فالهجرة العالمية آخذة بالتزايد مع توسع عمليات التكامل في الاقتصاد العالمي كما أن تحرك التجمعات البشرية واختلاطها بعضها ببعض لا بد أن يشهد مزيدا من كثافة التفاعل بين الشعوب في المستقبل. ومن جهة أخرى فإننا نشهد تصاعد التوترات الإثنية في كثير من مجتمعات العالم وقد أدى بعضها بالفعل إلى تفكيك الكيان السياسي والاقتصادي في دول كانت تضم جماعات إثنية متعددة مثل بعض دول البلقان، كما أن بعض هذه الدول مثل يوغسلافيا سابقا شهدت ما أصبح يعرف بسياسة التطهير العرقي التي تقوم في جوهرها على خلق مناطق متجانسة ومتشابهة إثنيا بعد طرد الجماعات الأخرى المغايرة لها وتهجيرها من أراضيها. وقد نفذت هذه السياسات العرقية الإثنية عندما قام الصربيون بطرد عشرات الألوف من المسلمين من كرواتيا عام 1992 وتهجيرهم واغتصاب نسائهم وسلب ممتلكاتهم، وقد شنت الحرب في كوسوفو عام 1999 بعد قيام القوات الصربية بممارسة التطهير العرقي على المسلمين الألبان وتهجيرهم من موطنهم في ذلك الإقليم. وكان من نتائج الصراع الإثني في البوسنة وكوسوفو أن تحول النزاع الإثني إلى قضية عالمية وإلى هجرة مئات الآلاف من اللاجئين إلى الدول المجاورة.
التصنيف الحركي للجماعات الإثنية
هناك نظام تصنيفي للجماعات الإثنية لا يتوقف عند المتغيرات الهيكلية التي ينشأ عنها التنوع الإثني ولا عند ولادة نمط العلاقات السائدة بين هذه الجماعات الإثنية في نفس المجتمع بل يمضي إلى ما تحدثه من حركات اجتماعية سياسية داخل كل جماعة وبين هذه الجماعات ونقطة البدء في التصنيف الحركي هي عدم قبول الجماعات الإثنية لوضعها الراهن في المجتمع وتمرّدها على نمط العلاقات السائدة فيه بينها وبين غيرها من المجتمعات.
عدم القبول أو التمرد قد تختلف أو تتعدد أسبابه كما قد تختلف أشكاله ودرجاته ولكنه حين يتبلور في تيار هادف إلى تحقيق مرام معينة وحينما يتوفر لهذا التيار قيادة وحد أدنى من الإطار التنظيمي ويدخل فيه أو يلتف حوله عدد معقول من أفراد الجماعة الإثنية فإنه يتطور إلى حركة اجتماعية ويمكن تصنيف هذه الحركات على أساس ما تهدف إليه هو الأكثر جدوى:
الحركات الانصهارية: هنا تجد الصراعات الإثنية أن خاصية أو أكثر من خصائصها الهيكلية (الدين أو السلالة أو الثقافة) تؤدي إلى عدم قبولها أو مساواتها مع الأغلبية بشكل كامل وقد تخلص إلى أن تفردها بهذه الخصائص الهيكلية هو المسؤول عن التعصب ضدها والتفرقة في معاملتها من جانب الأغلبية أو الجماعات الإثنية الأخرى. وطبقا لهذا الاستقراء يصبح هدف الجماعة مزدوجا أولا أن تتخلى بقدر الإمكان عن الصفات المميزة لها (مثل ثقافتها أو لغتها أو ديانتها الأصلية) وثانيا أن تتبنى بقدر الإمكان كل الخصائص الهيكلية للأغلبية أو لجماعة إثنية أخرى تعتبرها أكثر حظا وأعلى مكانة في المجتمع، ويكون برنامج الحركة الاجتماعية الإثنية في هذه الحالة هو تشجيع أفرادها على التخلي عن مقومات إثنيتهم الأصلية من ناحية وإزالة العوائق والصعوبات التي تحول دون تبنيهم لخصائص الأغلبية أو الجماعة الإثنية المطلوب الالتحام بها والذوبان فيها. ويدخل في إزالة العوائق والصعوبات إلغاء القوانين أو التقاليد التي تمنع التزاوج والمصاهرة والاختلاط والتفاعل المكثف بين أفراد هذه الجماعة الإثنية وغيرهم من أفراد الأغلبية وأحيانا ترحب الأغلبية بذلك الهدف وتتعاون في تحقيقه وأحيانا أخرى ترفض وتعرقل هذا المطلب.
الحركات الاندماجية: عملية الاندماج الإثني هذه تفترض أن الجماعات الداخلة فيها متقاربة في السلطة والمكانة ولا تشعر إحداها بالاستعلاء أو التفوق على الجماعة أو الجماعات الأخرى لذلك لا تقف بينهم حواجز قوية في التفاعل المكثف أو الاستعارة الحضارية والثقافة المتبادلة بين الواحدة والأخرى. وربما كانت أهم آليات هذا الاندماج التكاملي هي التزاوج بين أفراد الجماعات الإثنية في نفس المجتمع وقد تكون دوافع ومبررات هذا الاندماج التكاملي هي المصالح المشتركة أو الإحساس بمخاطر مشتركة أو دعوة دينية أو أيديولوجية جديدة. والمؤرخون الاجتماعيون لنشأة الدول القومية يذهبون إلى أن نواة معظمها كان اتحادا بين العشائر والقبائل في رقعة جغرافية متجاوزة لأحد هذه الاعتبارات، وفي التاريخ الحديث توجد أمثلة عديدة للحركات الاندماجية بين الجماعات الإثنية حيث تؤدي إلى انبثاق وحدة قومية متجانسة ويمكن أن نذكر نيجيريا وباكستان وبنغلادش ولبنان كأمثلة لتلك المحاولات.
الحركات التعددية: النوع الثالث من الحركات الإثنية يهدف إلى احتفاظ كل جماعة بخصوصيتها الإثنية مع المساواة في الحقوق السياسية والمدنية ويطلق على هذه الأيديولوجية مذهب التعددية والذي ينطوي على رفض الذوبان والاندماجية والانفصالية السياسية والاستعلائية في آن واحد. ومن ناحية أخرى تؤمن هذه الأيديولوجية بقيمة الخصوصية الإثنية وبالتنوع الحضاري في إطار وحدة المجتمع السياسي. وبتعبير آخر تنطوي التعددية على نوع من الديمقراطية الإثنية أي المساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون دون أن يكون ثمن ذلك تخلي أيّ جماعة عن خصوصيتها وتراثها وطريقتها في الحياة.
الحركات الاستعلائية:
بعض الحركات الإثنية ولأسباب متعددة قد تنمّي بين أفرادها نزعة التفوق والاستعلاء على غيرها من الجماعات التي تعيش معها في نفس المجتمع، وفي نفس الوقت تدرك هذه الجماعة ذات الشعور الجمعي الاستعلائي أن مصالحها تملي عليها البقاء والتعايش في نفس المجتمع السياسي مع جماعات إثنية أخرى. وانطلاقا من ذلك تتبلور أيديولوجية صريحة أو ضمنية تؤمن بالتعايش مع عدم المساواة فهي لا تريد أن تنفصل الجماعات الأخرى عن المجتمع السياسي متعدد الإثنيات ولكنها في نفس الوقت لا تقبل مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات السياسية والمدنية ومن هنا يتركز نضالها حول الوصول إلى السلطة إن لم يكن قد تبوأتها بالفعل، وإذا كانت السلطة في أيديها فهي تريد احتكارها والاحتفاظ بها أو بنصيب الأسد منها. وغالبا ما تقدم الحركات الإثنية الاستعلائية تبريرات أيديولوجية لأهدافها وممارساتها لاحتكار السلطة والتسلط على الآخرين قد تكون هذه التبريرات دينية (حقا إلهيا أو وعدا في كتب سماوية مثل مقولة شعب الله المختار) أو سلالية (تفوّق العنصر الأبيض وتدني العنصر الأسمر أو الأسود في الذكاء والقدرات) أو ثقافية (تفوّق الحضارة الغربية ورسالتها في التنوير وقيادة الآخرين) أو اقتصادية (جماعة إثنية معينة هي التي تقوم بالدور الأهم في الإنتاج ودفع الضرائب وتمويل الدولة) أو وطنية (جماعة إثنية معينة أكثر التزاما وإخلاصا وأقوى دفاعا عن الكيان الوطني من غيرها من الجماعات) أو وجودية (جماعة إثنية تؤمن في قراره نفسها أو توحي للآخرين بأنه لا بقاء لها إذا تمتعت بمركز استعلائي في قمة السلطة) وأيّا كانت التبريرات فإنها تخلق ردود فعل معاكسة لدى الجماعات الإثنية الأخرى.
خاتمة
ومع تسارع العولمة وعمليات التغير الاجتماعي في عالمنا المعاصر فإن التنوع الإثني وما ينطوي عليه من فوائد وتعقيدات يطرح تحديات جدية أمام أعداد متزايدة من البلدان. فالهجرة العالمية آخذة بالتزايد مع توسع عمليات التكامل في الاقتصاد العالمي كما أن تحرك التجمعات البشرية واختلاطها بعضها ببعض لا بد أن يشهد مزيدا من كثافة التفاعل بين الشعوب في المستقبل. ومن جهة أخرى فإننا نشهد تصاعد التوترات الإثنية في كثير من مجتمعات العالم وقد أدى بعضها بالفعل إلى تفكيك الكيان السياسي والاقتصادي خلال العقد الماضي في دول كانت تضم جماعات إثنية متعددة مثل بعض دول البلقان، كما أن بعض هذه الدول مثل يوغسلافيا سابقا شهدت ما يعرف بسياسة التطهير العرقي كما شهد القرن العشرين أحداثا وتطورات خطيرة تدخل في عداد الحروب والحملات الهادفة إلى إبادة شعوب أو جماعات إثنية بأكملها مثلما حدث للأرمن في أواخر عهود الإمبراطورية العثمانية ومثلما قامت به ألمانية النازية ومثل المذابح التي قامت بها الأغلبية في رواندا من قبائل الهوتو ضد الأقلية المتمثلة بقبائل التوتسي، كما كان من بعض نتائج الحروب والحملات هذه سقوط بعض الأنظمة السياسية واقتياد زعمائها إلى محاكم دولية بعد اتهامهم بجرائم ضد الإنسانية.
المصادر:
*علم الاجتماع أنتوني عدنر- مركز دراسات الوحدة العربية.
*سعد الدين إبراهيم مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية.
*التصنيف الحركي للجماعات الإثنية لسعد الدين إبراهيم.
*الملل والنحل والأعراق في الوطن العربي – سعد الدين إبراهيم.
كاتب من سوريا
التفسيرات السيكولوجية والسوسيولوجية للتفرقة الإثنية | محمد علي إبراهيم باشا | مجلة الجديد (aljadeedmagazine.com)