محكمة كوبلنز كرة الثلج التي تدحرجت / محمد إبراهيم باشا
يقول كارل يونغ: “ليس في الحيوانات من يخبئ وفرة طرائده وأخاه يتضور جوعاً ، وليس فيها من يحاول أن يفرض إرادته على أفراد جنسه ، وليس فيها من يتخيل مخطئاً أنه فيل وهو بعوضة“.
كما كتب ممدوح عدوان في كتاب حيونة الإنسان: “إنّ اللغة هنا تبدو فقيرةً، وحين نضطر لاستخدام كلمة “وحش” و “وحشي” و “متوحش“؛ فإننا نتواطأ مع جنسنا البشري لكي نظلم الوحوش. فقد دلّت الأبحاث والتجارب على أن ما نَصِفُه بالوحشية هو سلوك خاص بالإنسان“.
إن فكرة التعذيب من أجل الألم فكرة لا يعرفها إلا البشر لأنهم مدركون بنتائجها وتداعياتها التي تُحقق لهم نوعاً من السلطة والقوة والرعب بعكس الحيوان الذي يفترس ليعيش بشكل غرائزي وقد يكون السوريين الفئة البشرية الأكثر إدراكا ووعيا لتلك الفكرة التي عانوا من فصولها على مدار ستون عاما من حكم البعث الذي مارس بحقهم شتى أصناف الاضطهاد والتعذيب بقصد إرهابهم وتدجينهم لكنه لم يفلح في أرغامهم على الخنوع والاستسلام فأبى السوري إلا أن ينتصر لحقوقه وينتقم لضحاياه من الجلادين وقد تكون محكمة كوبلنز الفصل الأول من فصول ذلك الانتقام .
سيصدر عن محكمة كوبلنز في شهر نوفمبر تشرين الثاني القادم الحكم في قضية المتهم أنور رسلان ضابط الأمن السابق المسؤول عن فرع الخطيب في دمشق الذي وجه له الادعاء العام عدة تهم بعدة جرائم منها القتل والتعذيب الممنهج وسلب الحريات والتحرش الجنسي و الإخفاء القسري و أغلبها جرائم ضد الإنسانية بعد سلسلة محاكمات طويلة ومعقدة استمعت فيها المحكمة لشهادات النفي والإثبات و إفادات المدعيين الشخصيين ومحصت أمامها كافة الأدلة والوثائق .
الاتهامات التي وجهت لضابط الأمن السابق الذي ادعى الانشقاق تلخص طبيعة النظام السوري وتعطي صورة مصغرة عن منهجية التعذيب في مزرعة الأسد بدءا من الصعقات الكهربائية والضرب بالكابل و الحرمان من النوم والعنف الجنسي و التحرش الجنسي والاغتصاب والسجن في الزنزانات الانفرادية الضيقة التي تشبه التوابيت لمدد زمنية طويلة والحرمان من الاستحمام مرورا بتعرية المساجين وإجبارهم على اغتصاب بعضهم البعض والتجويع والحرمان من العناية الطبية وصولا إلى العديد من الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية وسأكتفي هنا بإيراد شهادة لاحد المعتقلين في فرع الخطيب ممن تعرضوا للتعذيب على يد المتهم أنور رسلان فقد تحدث الشاهد لشرطة مدينة كوبلنز عن اعتقاله في “فرع الخطيب” وعن طريقة التحقيق معه وهو مكبَّل اليدين ومعصب العينين وعن ضربه أثناء التحقيق معه بالأيدي والأرجل و العصي وتعريضه لصعقات كهربائية على الرقبة وفقدانه الوعي لمرات متعددة وبقائه معتقلا مع ما يقارب 150 معتقلًا آخرا داخل زنزانة ضيقة وربط عضوه الذكري وإرغامه على شرب الكثير من الماء ومنعه من التبول، للدرجة التي كان يشعر بها بدنو اجله و اضطراره في النهاية للادعاء بالجنون، كانوا يصعقونه بالكهرباء فيضحك ليقنعهم انه قد جن .
ما يميز هذه القضية أن الادعاء العام الألماني قبل تحريك الدعوى العامة ضد المتهم ومحاكمته في مدينة كوبلنز رغم أن كافة الجرائم المنسوبة إليه مقترفة في سورية ، وفقا لمبدأ الصلاحية القضائية العالمية التي تتيح للقضاء الوطني الألماني الفصل في الدعاوى المرفوعة على أشخاص مقيمين أو غير مقيمين على ترابه الوطني وعن جرائم مرتكبة في الخارج .
إن تقدم منظومة العلاقات و القوانين الدولية أدت إلى ظهور ما يسمى بالصلاحية القضائية العالمية التي شكلت علامة فارقة هامة وملحوظة في ميدان القوانين والمحاكمات الدولية و حاجزا مهما يمنع إفلات المجرمين من المحاكمة والعقاب على جرائمهم الدولية ، لتنتفي معها أية حصانة عن أي مجرم مهما بلغت سطوته وسلطته و مكانته السياسية و أتاحت للكثير من المجنى عليهم إمكانية الوصول إلى حقوقهم التي سلبت في دولهم الوطنية صاحبة الاختصاص القضائي الأصلي كما فتحت المجال لحل سلمي في كافة المنازعات الدولية ، لأن أغلب المحاكم الدولية تتمتع بتلك الصلاحيات التي تجيز لها البت في الدعاوى المعروضة عليها .
يقصد بالاختصاص العالمي أو الصلاحية العالمية للقضاء الوطني أنه يجوز لكافة الدول ملاحقة مرتكبي كافة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وفي جميع المراحل ابتداءا بالتقصي والتحقيق وجمع الأدلة وانتهاءا بإصدار الأحكام القضائية وإنفادها ، بغض النظر عن مكان الجريمة أو جنسية الجاني أو جنسية المجني عليهم ، على أراضيها .
تنطلق الصلاحية القضائية العالمية من مبدأ هام للغاية يتعلق بمجموعة من الجرائم المقننة التي وجد إجماع دولي على ملاحقتها ومحاسبة مرتكبيها ، وهي– كما اسلفنا –جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة الجنس أي الجرائم التي تهدد السلم والأمن العالمي .
يتماشى مفهوم الاختصاص العالمي للمحاكم الوطنية مع مفهوم فداحة الجرم وبشاعته الذي يبرر الخروج عن الاختصاص المحلي للقضاء الوطني المستند لمفهوم السيادة الوطنية إلى الاختصاص العالمي ، فالقوانين الدولية و العرف الدولي و المبادئ العامة للقانون الدولي و المعاهدات والمنظمات الدولية التي أجمعت غالبية الدول على الاعتراف بها و التوقيع عليها يجعل من مفهوم الاختصاص العالمي أو الولاية العالمية للقضاء الوطني شأناً يتوافق مع تطور مفهوم العدالة الدولية.
رغم كل ما سبق ذكره من أسباب تجعل من مفهوم الصلاحية العالمية مفهوما منطقيا متماشيا مع مقتضيات العدالة الدولية و إنفاذ القانون إلا انه بقي مفهوما محدودا وخاضعا لاعتبارات سياسية تحد من تطبيقه وتجعله خاضعا لتقدير الدولة محل الادعاء و مزاجها السياسي فغالبية الدول تشعر بالحرج من مثل هذه الدعاوى فتلجأ إلى تعطيلها بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال تعقيد مراحل الشكوى والادعاء أو ربطها بمجموعة من الإجراءات الشكلية التي تعقد أو تعرقل أو تمنع تحريكها بشكل كامل كما هو حال غالبية الدول الأوربية باستثناء ألمانيا والنروج والسويد و غالبية دول القارة الأمريكية و الآسيوية وان بدأت بعض الدول في الآونة الأخيرة بمراجعة حساباتها بهذا الخصوص ومنها على سبيل المثال لا الحصر إسبانيا التي عطلت هذا المبدأ منذ فترة زمنية طويلة إلا أنها بدأت مؤخرا تفكر بإعادة تفعيله مرة أخرى كما صرحت بذلك وزيرة العدل الإسبانية التي أكدت : أن الحكومة الإسبانية تنوي إعادة العمل بالصلاحية العالمية للقضاء، ما سيتيح للمحاكم التحقيق في جرائم خطيرة ارتكبت في الخارج و أن “الوزارة تنوي العودة إلى القانون الذي كان معمولا به بين عامي 1985 و2009 ، والذي يعطي القضاء صلاحية عالمية“، كما تنوي توسيع هذه الصلاحية لتشمل “الجرائم الدولية ذات الطابع الاقتصادي والمالي والبيئي“.
وبالتالي فان تصدي محكمة كوبلنز الألمانية لهذه الدعوى وتحريكها وفقا للصلاحية سابقة الذكر إضافة للدعوى المقامة ضد رفعت الأسد عن الجرائم التي اقترفها في مدينة حماة السورية في ثمانينات القرن المنصرم أمام المحاكم السويسرية والشكوى المقدمة ضد الجنرال الليبي خليفة حفتر أمام المحاكم الفرنسية وغيرها قد يفتح المجال أمام بقية الدول الأوربية بشكل خاص و العالمية بشكل عام كي تراجع حساباتها بهذا الخصوص و تحذو حذوها وتبدأ بملاحقة المجرمين الموجودين على أراضيها أو إصدار مذكرات اعتقال للمجرمين الموجودين خارج أراضيها بالقدر الذي يمهد الطريق أمام تحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب .
كما أن تجريم المتهم أنور رسلان / غالبا سيجرم / سيشجع الكثير من السوريين المنتشرين في دول الشتات واللجوء الذين عانوا من إجرام نظام الأسد و جلاوزته على محاكمة تلك الزمر المجرمة أمام المحاكم الأوربية المختلفة والسعي لإصدار مذكرات توقيف واعتقال بحقهم على أقل تقدير وفقا للصلاحية العالمية التي تكلمنا عنها على غرار محاكمة كوبلنز التي اعتبرتها بمثابة كرة ثلج صغيرة تدحرجت في مسارها و ستكبر رويدا رويدا لتشمل كافة رموز النظام السوري و المجرمين ضد الإنسانية .
محكمة كوبلنز.. كرة الثلج التي تدحرجت (thelevantnews.com)