بين دفع حرس الحدود البيلاروسي وصد القوات البولندية “حكاية يوسف وحسام”
في مساحة مفتوحة بين سياجي الحدودين البولندية البيلاروسية، يعلق المهاجرون. يدفعهم حرس الحدود البيلاروسي إلى الأمام للعبور، وحرس الحدود البولندي إلى الوراء للعودة.
ينجح بعض المهاجرين في تجاوز تلك المساحة، لكنهم سرعان ما يبدأون تيها في غابات كثيفة، أشجارها تلامس السماء وتغطيها أحيانا، طقسها صعب، ظلامها حالك، مياهها مختبئة كلعنة ومواردها بالكاد تبين. يعبرها البعض بينما يقضي آخرون حتفهم فيها. هذه حكاية كثير من المهاجرين في تلك المنطقة، حكاية تبدأ قبل لحظة وصولهم إلى بيلاروسيا وتنتهي إما بعودتهم إلى نقطة الوصول إو بوصولهم إلى بر ما.
جلسنا ولم نكن عرّفنا بأنفسنا بعد، بدا أنهم يعرفون مسبقا أننا صحفيون، جلس سبعة مهاجرين أمامنا، حول طاولة بيضاء توسطت غرفة مربعة، داخل مركز إيواء بالقرب من الحدود البولندية. قعدوا لأنهم راغبين في الحديث إلينا لاسيما عن معاناتهم مع كذب المهربين وعنف حرس الحدود البيلاروسي وقسوة الغابات.
بينهم جلس الطبيب قاسم، المسؤول عن متابعة الأوضاع الصحية للمقيمين في المركز، وإلى جانبه حسام ثم يوسف، وهما مهاجران من سوريا. بدا يوسف منهكا، دلت على معاناته آثار عنف مطبوعة على وجهه واحمرار نافذ من عينيه. بعد أن تعرفوا إلينا وتأكدوا أننا سننقل قصتهم، بدأ حسام ويوسف بسرد حكايتهما منذ خروجهما من سوريا حتى وصولهما إلى هذا المركز الذي تديره جمعية “فونداسيون ديالوغ Fundacja DIALOG”.
ذهبنا إلى بيلاروسيا من موسكو على نحو غير شرعي”
حسام
خرجنا من سوريا إلى لبنان بشكل قانوني، ثم ذهبنا من لبنان إلى موسكو بالطائرة. أمن أشخاص التأشيرة وبطاقات السفر، كلفنا الأمر نحو أربعة آلاف دولار أمريكي (حوالي 3500 يورو)، وكنا سندفع مبالغ إضافية بعد وصولنا إلى بيلاروسيا ثم إلى ألمانيا. كانت الخطة تقتضي بأن نمشي مسافة 700 متر فقط بعد عبور بولندا، ثم نجد سيارة تقلنا إلى ألمانيا.
يوسف
كنا ثلاثة التقينا بالشخص الرابع الذي سيعبر الحدود البولندية معنا في شقة شخص مرتبط بمن أمن لنا تأشيرة الرحلة. أقمنا عنده أربعة أيام ورتب لنا أمر الذهاب من موسكو إلى بيلاروسيا على نحو غير شرعي. بدلنا 3 سيارات وأمضينا نحو 10 ساعات على الطريق حتى وصلنا إلى مدينة في بيلاروسيا، أقمنا فيها يوما وفي الخامسة من صباح اليوم التالي، انطلقنا باتجاه النقطة الحدودية.
”قال لنا المهربون لا تقلقوا من حرس الحدود البيلاروسي، سيساعدونكم على العبور”
يوسف
أول ما اقتربنا من السياج الحدودي البيلاروسي، جاء حراس بيلاروس نحونا، عدنا إلى الخلف مسافة متر تقريبا، كنا مطمئنين لان المهرّب أخبرنا ألا نخاف، قال لنا “على العكس هم سيساعدونكم، إن قبضوا عليكم فالأمر طبيعي”. لكننا فوجئنا، بدأو يصرخون، ويأمرون أن نركع “فليركل الجميع” قالوا. وبينما أحاول النزول على ركبي، باغتتني أول ضربة، نفر الدم من أنفي وفقدت الوعي. أخبرني صديقي بعد أن استيقظت أن الحارس ضربني مرة ثانية. ضربني بقدمه على وجهي في المرتين. كنت أنزف وشعرت أن كسرا أصاب أنفي، تورمت عيناي، وكُسر سنان.
حسام
أخذوا نقودي ورموا جواز سفري وضربوا يوسف بعنف شديد، لم نعرف أنهم يريدون نقودا، لم أعرف حينها، لكنني فهمت بعدها، إن كنا أعطيناهم 200 دولار، كانوا سيوصلونا إلى الحدود البولندية. لا يعرف هذا الأمر سوى من حاول العبور مرة واثنتين وثلاثة.
يوسف
ضُرب أصدقائي أيضا، لكن ليس مثلي، لا أظن أنهم ضربوني من أجل النقود، لا أعرف لماذا فعلوا ذلك، إن حوادث الضرب على الحدود ازدادت في الآونة الأخيرة. أخبرني أصحاب أن هناك شخصا كسر حرس الحدود البيلاروسي ساقه.
عن عنف الحدود البيلاروسي
يوسف وأصدقاؤه من بين مئات المهاجرين الذين وقعوا ضحية عنف حرس الحدود البيلاروسي، وفق المتطوعة آنا من جمعية أوتشليني (Ocalenie) التي تساعد المهاجرين التائهين في الغابات البولندية. قالت آنا أثناء حديث مع مهاجر نيوز، وصلتنا شهادات كثيرة عن عنف حرس الحدود البيلاروسي، وضرب المهاجرين، إضافة إلى إجبارهم على عبور الحدود باتجاه بولندا، حتى أننا رصدنا إصابات نتيجة دفع المهاجرين باتجاه السياج الحدودي، إصابات لاسيما في الوجه واليدين. مضيفة أن الجمعية سمعت أيضا عن موضوع منع حرس الحدود البيلاروسي مهاجرين من العودة إلى مينسك واستعمال العنف لصدهم. كما أشارت إلى أنهم بدأوا يسمعون عن عنف حرس الحدود البيلاروسي لاسيما في شهري أيلول/سيبتمبر وتشرين الأول/أوكتوبر.
“اذهبوا إلى بولندا ومن هناك إلى بلدكم”
اصطحب الحرس البيلاروس يوسف وحسام ومن معهم إلى المنطقة الفاصلة بين الحدودين، المنطقة الممنوعة، وفق يوسف. كان المهاجر السوري لا يزال ينزف ويشعر بألم شديد. لم يكن قادرا على متابعة المسير، رمى حقيبته وأبطأ خطاه، كان وأصدقائه على مقربة من السياج البولندي وحرس الحدود.
حسام
طلبنا المساعدة من البولنديين، قلت لهم لدينا مصاب ينزف هل تساعدونا؟
يوسف
لا نستطيع مساعدتكم فأنتم على الطرف الآخر، رد البولنديون. لكن رموا لنا عصيرا وماءا وشعلة تساعدنا على إيقاد نار. أمضينا ليلنا حول النار. من المستحيل أن أكمل الطريق، ليس لدي ثياب ولا ماء وحقيبتي ضاعت ولا أستطيع التنفس. في صباح اليوم التالي عدنا إلى جانب الحرس البيلاروسي.
حسام
أخبرناهم أننا نريد الذهاب إلى بلدنا، قالوا لنا اذهبوا إلى بولندا ومن هناك إلى بلدكم. بقينا في المكان حتى بات عددنا كبيرا بين 75 و150 شخصا. في المساء، وضعنا الحرس في شاحنات مغلقة لم نعرف إلى أين نحن ذاهبين.
يوسف
وضعونا عند نقطة يعرفونها، رفعوا السياج بسهولة وقالوا لنا اعبروا.
محاولات غير مجدية
كان أكد مهاجرون آخرون تحدثنا إليهم، الطريقة التي يتبّعها الحراس البيلاروس لجعل المهاجرين المحتجزين في المنطقة الفاصلة بين الحدودين يعبرون إلى بولندا، وهي غالبا الطريقة نفسها. يجمهرون المهاجرين في مكان محدد إلى أن يصبح عددهم كبيرا، ثم يقودونهم إما مشيا أو عبر شاحنات إلى نقاط يعرفونها جيدا. بعد الوصول إما يقطعون السياج الشائك المفضي إلى الطرف البولندي، أو يرفعونه ويقولون للمهاجرين اعبروا. يحاول مهاجرون العبور لوحدهم أحيانا، لكن غالبا ما تبوء محاولاتهم بالفشل ويلقي الحرس البولندي القبض عليهم ويعيدهم إلى المنطقة الفاصلة بين السياجين.
“لم ألتق بأصدقائي ولم أعرف ماذا حل بهم”
عبر الأصدقاء الأربعة إلى الطرف البولندي، وسرعان ما افترقوا عن بعضهم، فأعداد العابرين كبيرة جدا، والليل حالك في تلك المنطقة المكتظة بالغابات.
حسام
من الصعب أن تبقى بصحبة أصدقاءك أثناء العبور، أنت لا تختر، افترقنا عن بعضنا، كان هناك أناس كثر لكن لم أعثر على أصدقائي بعد تجاوز السياج. أكملت المسير، وتهت في الغابة، كان معي هاتف ولكن لا يفيد في مراقبة الطريق. بقيت في الغابة أياما.
يوسف
لحقنا بأصدقائنا، ولكن الظلام حالك، لم نر إلى أين ذهبوا، صرخنا وردوا لكننا تهنا عن بعضنا. كان من المهم بقاؤنا سويا، فالهاتف الذي نستعمله في مراقبة الطريق بحوزتي أنا وصديق بقي معي. ظننا أنهم عادوا إلى الحدود البيلاروسية. ألقى الحرس البولندي القبض علينا وأعادونا إلى هناك بطبيعة الحال، لكن حسام وصديق آخر لم يكونوا هناك.
حاول يوسف وصديق معه عبور السياج في الصباح، لكن باء الأمر بالفشل. وفي المساء أعاد الحرس االبيلاروسي فعله الأول، مجمهرا المهاجرين، ثم موججهم إلى نقطة محددة فرافعا السياج ليعبروا. عبر يوسف وصديقه ولم يقبض عليهم الحرس البولندي لكن طريقا آخر قاسيا كان بانتظارهم.
حسام
لم ألتق بأصدقائي ولم أعرف ماذا حل بهم، كنت أنتظر كل يوم في الغابة طلوع الشمس، وأمشي باتجاه الشمال، حتى وصلت إلى مرحلة لم أعد فيها قادرا على إكمال المسير فأنا مريض سكري وضغط. أخرجت هاتفي واتصلت برقم الطوارئ (112). وصلت إلى المستشفى شبه منتهي، تابع الطبيب قاسم حالتي هناك، وبعدها حولني حرس الحدود إلى مركز الإيواء هذا.
”كنت أمشي وراء صديقي كأعمى”
وبينما كان حسام تائها في الغابات، وقبل أن يصل إلى مرحلة لم يعد فيها قادرا على المضي، كان يوسف سائرا وراء صديق معه على غير هدى.
يوسف
بعد عبورنا السياج البولندي اجتمعنا بمهاجرين عراقيين اثنين، أكملنا طريقنا الصعب سويا، كنت أمشي وراء صديقي ممسكا بحقيبته، كأعمى. لم أعرف ماذا أصاب حسام، فقدنا أثره.
فقدت الإحساس بالوقت والزمان في الغابة. كنت غير قادر على الأكل أو الشرب بسبب إصابتي. أنزف، وأتنفس من فمي، وكلما استرحنا وجلست غبت عن الوعي. أتذكر أنني أصبت برجفة حاولت التحكم بها، كنت أعض على لساني لأخفف الألم وأكمل المسير.
لم يدرك يوسف الظلمة من النور، كان يرى هيئات غير واضحة، ويسمع الأصوات وشوشات لا يستطيع تمييزها، بات وكأنه يهلوس.
يوسف
أذكر جملة واحدة، يوسف هل أنت بخير؟ نعم بخير أكملوا المسير. بقينا في الغابة نحو ثلاثة أيام لم أشعر بها، شربت مياه المستنقع من شدة العطش. وقبل وصولنا إلى النقطة المرجوة، رأينا لحسن الحظ أغراضا تركها مهاجرون آخرون، بينها مكعبات سكر، أذبتها في فمي علّها تعطيني بعض الطاقة.
وصل يوسف إلى مرحلة لم يستطع فيها إكمال المسير وقرر أنه سيسلم نفسه إلى الشرطة البولندية. خرج وصديقه إلى شارع رئيسي، رأتهم الشرطة، حوّل حرس الحدود يوسف إلى المستشفى وصديقه إلى منطقة الحدود في بيلاروسيا.
في تلك الفترة وإلى الآن تخضع المناطق الحدودية، لتشديد أمني وحضور عسكري شهدناه. سيارات الشرطة تفتش المارة وتتأكد من أوراقهم الثبوتية، وتتجول حول طرقات الغابة الضيقة والرئيسية حتى.
لا معايير محددة تسمح ببقاء المهاجرين في بولندا
أوضحت آنا من جمعية أوتشليني (Ocalenie) أن حرس الحدود يعيد غالبية المهاجرين إلى المنطقة الحدودية. مضيفة أن هناك مهاجرون دخلوا إلى المستشفى وفور خروجهم حولهم حرس الحدود إلى المنطقة الحدودية حيث عبروا. وقالت، يتواصل معنا العاملون في المستشفيات أحيانا، ليخبرونا أن حرس الحدود آتون، ربما نستطيع الضغط عليهم كي لا يعيدو المهاجرين إلى المنطقة الحدودية، لاسيما من أراد طلب اللجوء في بولندا.
”أصبحت مهمتي لم شمل الناس”
جاء الطبيب قاسم إلى بولندا لاجئا عام 2018، يتكلم اللغة البولندية بحكم درسة الطب هنا نهاية الثمانينات. ساعدته الجمعية المسؤولة عن المركز عند قدومه، وقرر بعد أن استقر وضعه ونجح في امتحان مزاولة مهنة الطب وبدأ بالعمل، أن يتطوع في المركز.
إضافة إلى عمله طبيبا وتطوعه في المركز، يتلقى الدكتور قاسم مكالمات من مستشفيات بالقرب من الحدود ليساعد في الترجمة، وأحيانا لزيارة المهاجرين الواصلين والحديث معهم هناك. كما يساعد الطبيب قاسم في وصل مهاجرين بعائلاتهم لاسيما في سوريا، وأصدقاء وأقارب جاؤوا معهم إلى بولندا وافترقوا في الطريق.
الطبيب قاسم
اتصلت بي طبيبة صديقة أخبرتني عن وصول مهاجر سوري إلى مستشفى قريبة، وضعه صعب، معدل السكر لديه عالي وهو مرعوب من فكرة العودة إلى بيلاروسيا. ذهبت إليه لمتابعة حالته والحديث معه. تحدثنا وتغيرت سحنته، اتصلت مع أحد أقربائه في سوريا وجعلتهما يتحدثان سويا. كان مع ذلك كئيبا وخائفا ومريضا. طلب مني البحث عن صديقيه، لاسيما يوسف، وبعدها أصبح يجب تنفيذ المهمة.
أخذ الطبيب قاسم على عاتقه وصل الصديقين، عرف أن يوسف في مستشفى قريب متخصص بجراحة الفكين.
حوّل حرس الحدود يوسف وحسام إلى مركز الإيواء الذي يعمل فيه الطبيب بالقرب من الحدود البولندية. يقيم هناك أكثر من 40 مهاجرا بينهم نساء وأطفال. وفق مدير مركز الإيواء، ميشال غاويل Michal Gawel، فإن المهاجرين الذين ينتهي بهم الأمر في المركز لديهم وضعية خاصة جدا ويحتاجون في غالبهم إلى متابعة طبية بعد خروجهم من المستشفى