نجم والشيخ إمام، طائران ساحران

 

 

 

رامز جوهر- كاتب سوري

إلى قرية كانت تستريح على حافة الغبار والزمن، وتنام هانئة على أنغام صادق حديد وحسن الشريف وحياة البدوية، وتزرر صدرها متوسّدة زمناً لطالما اعتقدته بريئاً أكثر مما ينبغي. تسلل إلى غرفتي ذانك الطائران الساحران بألوانهما الزاهية، وكنسا كل ما رسخ في بالي عن الغناء الشعبي. في البدء أحدثا رعباً جمالياً قاومت وجوده وأحسست بالعجز على احتمال كل هذا الوزن الجمالي والغناء الساحر لهذا الشيخ، الطائر المغرد، والذي أعاد ترتيب هرم المشايخ في مدرجات طفولتي الأولى، ثم اكتشفت أن بهواً شاسعاً في داخلي ينتظر قدومهما.
في البداية استمعت إلى حكاية تل الزعتر، منذ تلك اللحظة بقي تل الزعتر أشرف وأوجع وأطهر جرح في نكباتي، وما حدث لاحقاً من نكبات، كان فقط يعيد فتح الجرح ويعمقه، وعرفت عن الحليب المنهوب لتلك البقرة المعطاءة، والتي عشقنا قدومها إلينا قبل أن نصل إلى غربة الحياة، وحكاية ذلك المناضل العابر للقارات والأوطان والذي تم غدره في غابات أمريكا اللاتينية.
بسرّية فائقة وفرح كبير حافظت على وجود هذين الطيرين في طيات أشيائي وقلبي، قدومهما بتلك الذاكرة المصرية الأنيقة جاء ليقلب كل ما نام في صدري عن الغناء والهناء، وحضرتْ الأم البهية بكامل جلالها، أو أنني أنا الذي جربت السفر اليومي إلى تلك الأم المستوطنة في أعماقنا بمهابة الأساطير، عبر حنجرة ذلك الشيخ الذي صنع إمارة الغناء، أو عبر ذلك الشاعر الذي فك وثائق القصائد وأطلقها أرغفة وشموس وغزلان برية.
لأول مرة كنت أعرف أن الغناء الشعبي الذي كنّا نردده كان يخون هديل الحكايات، ولا يحمل على أجنحته وجع الأزهار. لأول مرة كنت أعرف أن الغناء الشعبي لا يعني أن ينتفض جسدك حركة ورقصاً، بل قلبك نوراً وحزناً، لأول مرة كنت أعرف أن العالم أعمى أو يتعامى (لا فرق)، وأن ذلك الطير المغني الذي خسر نعمة البصر، استطاع أن يملك كل مساقط النور ويسلطها على قبح ووجع مستتر، لمشايخ السياسة والثقافة، والذين تضافر قبحهم لتشيّد أعتم القلاع في مطارح الجنائن. لأول مرة كنت أعرف أن هذين الطائرين حطا في كل القلاع المصرية، وهناك بمخاض وألم يصعب تقديره ولدت القصائد والألحان والأغاني، هذا يعني تماماً السخرية المريرة من سياط الجلادين وبؤسهم، ومقابلة عنفهم الخرافي بخلق خرافي هو الأكثر انتصاراً والأكثر خلوداً.
الطائران الجميلان تواعدا، انصهرا، اندمجا، وطارا من دائرة التعقل إلى سماء الجنون فكان سحر الخلق الفني. حلقا بجنونهما الفريد وقطفا الخالد في الإنجاب الفني ثم جابا مساحة الوطن المسكين ناثرين ياسمين القصيدة الأغنية، والأغنية الطلقة، الطلقة التي ترديك مصاباً بالجمال.
الطائران نجم وإمام اللذان تسللا عبر أصغر النوافذ المفتوحة، ليتركا أخلد الرسائل في الغناء الشعبي، رسالتنا الصغيرة لكما تقول إن عبد الودود لم يعد “مرابض عالحدود”، فهو منذ تاريخ مجهول غادرها إلى الداخل ببندقيته الملقمة، ولهذا فقط، ومنذ ذلك التاريخ كانت تتراكم جثثي وجثث أخرى في قلبي، دون أن يضع عبد الودود يده على الزناد.

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

1 تعليق على “نجم والشيخ إمام، طائران ساحران”

التعليقات مغلقة