أسرار الحديقة / راتب شعبو
قبل التردد اليومي على الحديقة كنت تعتقد أن الكلاب حيوانات وفية للبشر، وفي جعبتك الكثير من القصص والشواهد، لكن الحديقة كشفت لك أن البشر أكثر وفاء للكلاب.
العجوز السمينة الجذع النحيلة الساقين، تمشي بتثاقل وهي بلباس البيت وراء كلبها الصغير الذي تخاله ليس سوى قطة تنبح. لا يمنع هذه العجوز شيئاً من الوفاء لكلبها صباح مساء بمشوار في الحديقة، الكلب يقضي حاجته في المكان نفسه كل مرة، ويعربد قليلاً بقدر ما يسمح له الحبل المشدود إلى يد العجوز التي تنظر إلى كلبها بقلب أم، وتثابر على رعايته بثبات العابدين، فلا يمنعها مطر ولا ثلج، لا حر ولا برد. وتخشى أن تطلق سراحه من الحبل فقد يكون وفاءه لها أقل من يتعبها في ملاحقته وهي عاجزة عن ذلك.
في جانب آخر من الحديقة سوف تجد سيدة أخرى أكثر شباباً، تخرج بلباس أنيق لتنزه كلبها وكأنها ذاهبة إلى العمل، وكأنها تقوم بمهمة رسمية، على وجهها نظرة جدية أقل أمومة من العجوز، ولكنها أكثر كرماً مع كلبها المتوسط الحجم ذا البقع البنية الكبيرة على أرضية بيضاء، فهي تحرره من الحبل وتتركه بضع دقائق لحياة كلبية طبيعية، يختار بحرية المكان الذي يقضي فيه حاجته، ثم يركض بعدئذ في كل اتجاه، قبل أن يتذكر الحبل، فيعود إلى قرب سيدته ويسلمها رقبته مستمتعاً بدلالها وحركاتها الراضية.
أما الرجل الأربعيني، بالقبعة التي لا تفارق رأسه والعصا القصيرة التي لا تفارق يده، فإنه يحرر كلبه دائماً من الحبل وينظر إليه بفخر. الكلب الأبيض الجميل الذي يشبه الذئب، يسير غالباً أمام سيده، ويبتعد عنه أحياناً، ويتوقف متأملاً المحيط، وقد يتجه، بتأثير غريزة ثابتة، صوب أحد رواد الحديقة، ولكن صوتاً خفيفاً من الرجل الواثق يجعله يتوقف، وإذا تكرر الصوت فإنه سوف يعود إلى حيث سيده الذي يقرر، بشعور واضح بالسيطرة والرضى والود، إعادة ربطه بالحبل أو لا، حسب مقتضى الحال.
الكلب الذي ينزهه رجل متهالك على عكاز، يحترم عجز صاحبه فلا يبتعد عنه حتى يعود ليتلجلج بين قدميه وعكازه، ويقمع رغبته فلا يدخل في معارك كلبية يمكن أن تقلق الرجل.
كل صباح تجد بشراً منوعين في الجنس والعمر والحال، ينشغلون بكلاب متنوعة هي الأخرى. كل صباح تجد مهرجان وفاء للكلاب. تقول لك الحديقة إن الكلاب تستعبد البشر وتوهمهم أنهم أسياد. الكلب يستعبد صاحبه بقليل من الطاعة التي يظهرها له. لا وظيفة لكلاب البيوت سوى إظهار الطاعة، وفي مقابل ذلك يخصص السيد مبلغاً من دخله لحاجات “الصديق” المطيع، وينشغل بتأمين كل مستلزمات رفاهيته، بما في ذلك مشوار الحديقة في كل حالات الطقس.
قد تقول، ماذا تقدم هذه الكلاب لأصحابها سوى الطاعة؟ هل تتحرض لدى الانسان حين يتحقق له السلام والاكتفاء، رغبة في التسيد فيمارسها على حيوان مثل الكلب، ثم يتعلق بحيوانه إلى حد أنه يصبح عبداً لعبده؟ لكن الحديقة تقول إن هذا الوفاء المتبادل لا علاقة له بالعبودية والسيادة، بل هو تعبير عن حاجتنا إلى كائن حي لا نشك في تعلقه أو حبه لنا، كائن لا يتكلم ولا يجادل ولا نشك في أنه يبطن ما لا يظهر. هكذا يكون هذا الكائن امتداد لنا، ويكون حبنا له هو حبنا لأنفسنا.
قد تقول أيضاً إن الكلاب تشبه أصحابها، فما أن ترى الكلب حتى ترتسم في مخيلتك صورة صاحبه قبل أن تراه. ولكن الحديقة تقول إنك أنت من يصنع التشابه بين الكلب وصاحبه، فالمرافقة الدائمة تصنع الشبه، كما تصبح العاهة الدائمة، مع الوقت، شبيهة بصاحبها.
هذا ما تحفظه الحديقة من أسرار عن الكلاب، ولا شك أنها تحتفظ بأسرار كثيرة عن رواد المقاعد الزرقاء، ورواد ملاعب البيتانك، ومحبي إطعام البط وطيور البحيرة، وعن العشاق الذين تفرش لهم مروجها الخضراء، وتمنحهم بعض العزلة في ثناياها … الخ. ولكن ماذا تحفظ الحديقة عمن لا تشمله هذه البنود، ماذا تحفظ عن عابر يتأمل الجميع، ماذا تحفظ عني؟