الافتتاحية: المعارضة الداخلية وأنماط الخطاب السياسي

لا تزال تعقيدات الوضع السوري ترخي بثقلها على الشعب السوري وقواه السياسية في كل مكان داخل وخارج سورية، ورغم الإيحاء السلبي، أو التوظيف السياسي، المقصود غالباً، الذي تعطيه ثنائية المعارضة الداخلية-الخارجية، فلابد من الاعتراف أن للجغرافية المكانية أثراً لا يمكن إهماله، ويتوجب فهمه والتعامل معه كخصوصية موضوعية لكنها لا تخلو من عوامل ذاتية.و ليس موضوعنا هنا المقارنة بين المعارضة داخل سورية، أو ما أصبحت عليه سورية من مناطق أمر واقع،  والمعارضة خارج سورية، بل سنحاول عرض نماذج أو أشكال من الخطاب المعارض في الداخل السوري، وفي مناطق سيطرة النظام السوري تحديداً، دون ادعاء معالجة كل أشكال الحراك السياسي الموجودة.شكلت الأزمة الاقتصادية المزمنة في الداخل السوري أساساً موضوعياً لأنماط متعددة من الحراك السياسي والشعبي، التي تعي ارتباط تلك الأزمة بالأوضاع السياسية من خلال مأزق عدم القدرة على إعادة إنتاج نظام سياسي مستقر من خلال مصفوفة العلاقات التي ينسجها النظام حوله، وفي الوقت نفسه رفض دفع تكاليف الانتقال السياسي، وفق المصفوفة الأممية-الدولية المتاحة، والذي اتضح أنه لا يمكن أن يتم دون الموافقة على بداية نهاية النظام المسيطر.في اللاذقية جرت مراسم دفن معارض حقوقي، كان محظوظاً بعد موته لأنه دفن في بلده، فهذا امتياز لم تحظ به رفات مناضلين توفوا في الخارج، أو ربما اغتالهم النظام، وهنا ليس التفسير الطائفي لموافقة النظام على عودة الجثمان كافياً، فليس هو العامل الحاسم. الفقيد “أكثم نعيسة” تم نعيه من قبل قوى سياسية وشخصيات معارضِة في الخارج، والخطاب الذي يتبناه كان خطاباً تتبناه غالباً ما تسمى “معارضة الخارج”، وهاهو يؤبن في الداخل وفي مسقط رأسه في قريته “بسنادا” المعروفة بتقديمها لعدد كبير من المناضلين.

في هذا التأبين ألقى السيد “فاتح جاموس” وهو مناضل سياسي قضى فترة طويلة في السجن، خطابا ً يؤبن فيه الفقيد، بخطاب سياسي من معارضة “الداخل” يؤكد فيه أنه: “حان الوقت بالضبط  لفتح الحوار الوطني وتجاوز حالة الأزمة والانقسام الوطني العميق والخطير، وهذا يقع على جهة كل المسؤولين عن هذا الانقسام: السلطة والمعارضة والموالاة، حان الوقت بالضبط لكي نوقف هذه المأساة في الوضع المعيشي والاقتصادي، حان الوقت لنقف صفاً واحداً في وجه الطبقة الطفيلية، التي تساعد سيزر تماماً، من أجل هذا الاختناق المعيشي”.

و بالطبع فإن مضمون هذا الخطاب، الذي يراهن على سحر التضامن الوطني الموهوم، ليس له علاقة بما كان يؤمن به أو يعمل لأجله الفقيد ”أكثم نعيسة”، وهذا المضمون يشكل استمراراً لمضمون خطاب ”تيار طريق التغيير السلمي” الذي أسسه السيد “فاتح جاموس”.

من نمط الخطاب “الوطنجي” الذي يضيِع الفروق بين “السلطة والمعارضة والموالاة” ننتقل إلى نمط آخر يتقاسم الهم الوطني نفسه لكنه ينطلق من موقع معارض، صاحب مشروع في التغيير، فقد شهد شهر آذار الماضي عقد مؤتمر لِ”الجبهة الوطنية الديموقراطية” “جود”، وقد عقد المؤتمر ألكترونياً، بعد منع النظام لعقده فيزيائياً، الثقل الأكبر السياسي هو “للاتحاد الاشتراكي” الذي يشكل القوة الأكبر في “هيئة التنسيق” ولكن تمت أيضاَ مشاركة أحزاب وقوى جديدة.

ووفقاً للسيد ” أحمد عسراوي،” الأمين العام للاتحاد الاشتراكي”، فإن ” المشروع الذي تسعى إليه القوى السياسية المشاركة في هذا المؤتمر هو “العمل على فتح آفاق جديدة في العمل السياسي وفي الحل السياسي التفاوضي، وفي تنفيذ القرار (2254) كمشروع جدول أعمال لبيان (جنيف)، وبالتنسيق مع القوى السياسية”.

و من حيث الجوهر فإن هذا التوجه نحو الانتقال السياسي وفق القرارات الأممية يتقاطع مع موقف أغلب القوى السياسية في “الخارج”، رغم وجود تعارضات غير منطقية عند بعضها التي تطالب بالحل الأممي لكنها في الوقت نفسه قد تدعو لإسقاط النظام. وقد شكل عقد مؤتمر ”جود” والتوجهات الصادرة عنه أساساً للتشكيك -غير المبرر- بهذه الجبهة باعتبار أن النظام رغم منعه عقد المؤتمر حضورياً، فإنه لم يعتقل أحداً من المشاركين، الذين يعملون بشكل علني، والذين لم يكتفوا بهذا التشارك البرنامجي مع “معارضة الخارج”، بل إن السيد “حسن عبد العظيم” الشخصية المعروفة أجرى اتصالات وحوارات مع تلك المعارضة في تركيا.

نمط  الخطاب الثالث هو الأقرب لمضامين شعارات الثورة السورية في انطلاقتها الأولى، ونقصد هنا الحراك الشعبي الذي اندلع في السويداء في عشرة الأيام الأخيرة، والذي توقف مؤقتاً بتأثير التهديدات الأمنية والعسكرية، وأيضاَ لإفساح المجال لتفاوض مباشر عن طريق الزعامات الدينية أو الروحية، أو غير مباشر ربما عن طريق الروس، لكن التظاهرات عادت للسويداء أمس، ومهما يكن الأمر فإن الظروف الموضوعية التي أثارت الحراك لا تزال قائمة وهي غير مرشحة للانتهاء.

مظاهرات الأيام الثلاثة في السويداء، في الأسبوع المنصرم، لم تكتف بالاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، التي تعاني منها جميع المناطق السورية، كما جرى في حملة ”بدنا نعيش” العام الماضي، بل رفع المتظاهرون شعارات إسقاط النظام  ورحيل “بشار الأسد” وخروج روسيا وإيران، بل واستهداف “بثينة شعبان” مستشارة الأسد المعروفة بتصريحاتها الطائفية و الاستفزازية للسوريين منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011.

في جميع الأحوال لا تزال لافتةً، طريقة النظام في مواجهة خروج السويداء عن الطاعة منذ 2011، وفي طريقة التعامل مع وجود عشرات الآلاف من المتخلفين عن أداء الخدمة الإلزامية العسكرية، فالنظام هدد وتوعد كثيراً وترك السويداء تعاني كثيراً تارة من اعتداء “داعش” وحيناً من الاغتيالات والخطف والانفلات الأمني عموماً ودائماً من المعاناة المعيشية، وهذه هي الوسائل الممكنة للضغط، طالما لا يزال النظام حريصاً على عدم خرق “شرعة حماية الأقليات”، التي روج لها كثيراً، وبنفس الوقت يحرص النظام على عدم السماح بتمادي البعض والخروج عن الهوامش المسموح فيها، ولكن أيضاً دون الوصول إلى قمع معمم كان قد مارسه النظام في مناطق أخرى. ومن الواضح أن كل محاولة تمرد على “قواعد اللعبة” فشلت رغم تضحيات وجهود عدد كبير من الناشطين، فشلت بسبب عدم وجود أفق في الاستمرار والتعاضد مع بقية المناطق السورية، وفشلت بسبب التهديدات الأمنية، وفشلت بسبب الشرخ الداخلي ووجود أعداد كبيرة من مؤيدي النظام، وعلى الأقل من عدم وجود تأييد شعبي كاف، ربما ناجم عن شعور الناس بعدم الجدوى، أو بسبب تخوفاتهم الأمنية.

أخيراً، نعتقد أن هذا التنوع في أشكال الخطاب المعارض، في الداخل أو في الخارج السوري، مفهوم لنا تماماً في “تيار مواطنة-نواة وطن”، بمعنى التفسير وليس التبرير، ولا زلنا نعتقد أن جبهة ديموقراطية عريضة هي ما يجب العمل عليه للمساهمة في تحقيق الانتقال السياسي، ونعتقد في الوقت نفسه، أن المشهد السياسي السوري، سواء في الداخل أو في الخارج، سيمر بصراعات وأوضاع صعبة، أساسها تعقيدات الوضع الداخلي أولاً ثم الأوضاع الإقليمية والدولية، وسيحتاج إلى وقت ليس قصيراً، بعد بدء الانتقال السياسي المنتظر، وفتح هوامش الحريات العامة، وذلك قبل أن يستعيد ألقاً سياسياً شهدته سورية قبل سيطرة الاستبداد السياسي.

تيار مواطنة – نواة وطن

المكتب الاعلامي ٢٠ شباط/فبراير ٢٠٢٢

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة