الهاتف الأسود
في ذلك الزمن كان جهاز الهاتف الأسود، ذو القرص الدوار، هو الوسيلة الوحيدة التي تنقل لنا الأخبار السارة المبهجة، أو المؤسية الحزينة. ولم يكن ثمة من يستعمل هاتف المنزل الموقر والمهاب إلا لأمر جلل أو لشأن ضروري. وربما كانت غسالة “هوفر” أو براد “بلودان” أو ساعة “سيتيزن” أو “جوفيال” أو “أورينت” اليدوية، هي أبلغ مظاهر ثراء العائلة، وأثمن وأفخم ممتلكاتها. وأكثر تفصيل بورجوازي لدى أبناء الطبقة المتوسطة.. كان الرجال والنساء والشيوخ والعجائز المقعدون والأطفال، هم الأجمل والأصدق. وكان لكلماتهم معانيها التي تستثير التفكير، وتؤخذ بالجدية الكافية.
حتى أمطار الشتاءات في تلك الأزمنة كانت كنزاً من كنوز السماء، يتسابق الناس إليها لشربها، أو ري حقولهم أو استحضار أدعيتهم. في ذلك الزمن، كانت أجرة كل شيء ندفعه أو نقتنيه بالعملات المعدنية شبه الضئيلة القيمة، ولم نكن ندفع ثمن شيء من النقود الورقية إلا فيما ندر. كان سقف الفحش، وذروة ما يمكن أن يسبب الحرج أو يخدش الحياء تجده في وجه امرأة أجنبية عارية الكتف، تتصدر واجهة صالة سينما. وكانت غمزات سميرة توفيق حين تغني، وهي تتلاعب بغمازات خديها، هي أكثر الجراءات التي تستثير الحرج لدى النساء والرجال. في ذلك الزمان كانوا يعدون أسوأ السفهاء وأدنى السخفاء من يتظارف قائلاً: “قل فانوس”. تقول: “فانوس”. فيتباسط بالضحك الذي لا معنى له، صائحاً بانتصار: “أمك عاروس”. ذلك كان أبلغ البذاءات البريئة التي تسعى لانتزاع ضحك الآخرين.
في ذلك الزمان كانت خبرات الناس الطبية، لا تتعدى فكرة أن منقوع اليانسون والنعناع المغلي، هو الوصفة الأكيدة والمجربة لنصف أمراض الجسم. ليس البرد وأوجاع المعدة فحسب. وإنما لنصف مخاوف النفس واعتلالاتها أيضاً. وكان واجباً على كل ربة منزل أن تحضر إبريق الشاي الكبير لعمال الحفريات الذين يعملون في الشارع. وكان التلفزيون وبرامجه أشبه بموظفين حكوميين رسميين. يُفتتح في السادسة مساءً، ويقطع بثه عند منتصف الليل. وكانت التعابير عن الحب والمحبة قليلة وضئيلة، وفقيرة التعابير. كأن تكتب بيتاً من الشعر مثلاً، وترسم تحته قلب حب بقلم “بيك” أحمر، نكاد لا نعرف غيره.
في ذلك الزمان، كان المسلسل المكسيكي والمصري في التلفزيون، يجمع الناس في البيوت على مصائر وانفعالات، ووجيف قلوب يتشاركها الجميع دون استثناء، ومن كل الأعمار تقريباً. وكان المجمع عليه باتفاق، عند الرجال والنساء على حد سواء، بأن ظهور الرجال علانية بقميص “بروتيل” داخلي، أو حتى قميص نصف كم، يعد فعلاً خادشاً للحياء، خارماً للمروءة، وقلة أدب ونقص كياسة. ولو أردت أن تشرح للناس مثلاً، في ذلك الأوان، عن زماننا هذا، وعن عدسات العين اللاصقة ونفخ الخدود والشفاه، وعمليات تغيير الجنس، لظنوك مجنوناً بالتأكيد.
كان الناس أشد فقراً وحرماناً، ولكنهم كانوا أكثر قناعة وثقة بأنفسهم وبمستقبلهم. وكانوا على يقين بأن “محمد علي كلاي” هو بطل أبطال هذا الزمان، وأيقونة السماء والأرض. تعابيرهم، على اختلاف لهجاتهم ومشاربهم البيئية، أكثر حميمية وصرامة ودفء ووضوح. كان الجميع يأوي إلى مضاجع نومهم قبل التاسعة أو العاشرة مساءً، استعداداً ليومهم الجديد. والربيع لم يكن يخلف موعده في الخضرة الدائمة، ولا الصيف في صرامته وحرارته، التي يبدأ الجميع بالاستعداد لها قبل شهر تقريباً. وكانت الأعياد ومواسم رمضان والحج وبداية العام الدراسي الجديد، لها طقسية ثابتة، يتعامل معها كل الناس، مع حرص على أن لا يتبدل شيء من طقوس تلك المواسم.
الكاتب معبد الحسون